ومضى فضيلته قائلا : ولقدْ جَرَتْ بينهم وبين رسولِ الله شؤونٌ وخُطوبٌ وأحْوالٌ وأهْوالٌ، ورسولُ الله مع كلِّ ذلك يَصْفَحُ ويَعْفُو، ويرجو أن يكونَ منهم مَنْ يُؤمِن به ويُصَدِّقه.. ولمَّا سألتْهُ زوجُه الصِّدِّيقةُ بنتُ الصِّدِّيق رضي اللهُ عنها يومًا: هل أتى عليك يومٌ كان أشدَّ من يومِ أحدٍ؟ قال صلى الله عليه وسلم «لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ ما لَقِيتُ، وكان أشدُّ ما لقِيتُ منهم يومَ العَقَبةِ؛ إذْ عَرَضْتُ نَفْسِي على ابنِ عَبْدِ يَا لِيْلِ بنِ عَبْدِ كُلالٍ، فلَمْ يُجِبْني إلى ما أردتُ؛ فانطلقتُ وأنا مهمومٌ على وَجْهي، فلم أَستفِقْ إلا وأنا بقَرْنِ الثَّعالِب، فرفعتُ رأسي فإذا أنا بسَحابةٍ قد أظَّلَّتْني، فنظرتُ فإذا فيها جبريلُ، فناداني، فقال: إنَّ اللهَ قد سمِعَ قولَ قومِكَ لكَ، وما ردُّوا عليكَ، وقد بعثَ إليكَ ملَكَ الجبالِ، لِتأمُرَه بما شئتَ فيهم، فناداني مَلَكُ الجبالِ فسلَّم عليَّ ثمَّ قال: يا مُحمَّدُ! إنْ شِئْتَ أنْ أُطبِقَ عليهم الأَخْشَبَيْنِ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : بل أرجو أن يُخرجَ اللهُ مِنْ أَصلابهم مَنْ يَعبُد اللهَ وحدَهُ لا يُشركُ به شيئًا» [أخرجه الشيخان]. وعن عروةَ بنِ الزُّبَير رضي الله عنه قال: سألتُ عبدَ اللهِ بنَ عمرِو بنِ العاصِ: أخبِرْني بأشدِّ شيءٍ صنعه المشركون بالنبيِّ ؟ قال: بَيْنما النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُصلِّي في حِجْر الكعبةِ؛ إذْ أقبل عُقبَةُ بنُ أبي مُعَيْطٍ فوضع ثوبَه في عُنُقِه، فخَنَقَه خَنْقًا شديدًا، فأقبل أبو بكر حتَّى أخذ بمَنْكِبِه ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أتقتلون رجلًا أنْ يقولَ ربِّي اللهُ؟! [أخرجه البخاري] وعن عبد الله بن مسعود قال: كأنِّي أنظرُ إلى رسولِ اللهِ يَحْكي نبيًّا من الأنبياءِ ضربَه قومُه، وهو يَمْسَحُ الدَّمَ عن وَجْهِه، ويقول: «رَبِّ اغفرْ لقومي فإنَّهم لا يعلمون». [أخرجه الشيخان]. وأوضح إمام وخطيب المسجد الحرام في خطبته أنه لما استَحْكَمَ البلاءُ على العُصْبةِ المؤمنةِ بمَكَّة، أذِن اللهُ جلَّ ثناؤه لنبيِّه g بالهِجْرةِ إلى المدينة، لِيكونَ في مَأمَنٍ من تربُّصِ قُرَيشٍ، يدعو إلى ربِّه، ويقيمُ دينَه الذي ارتضاه بين ظهرانَيْ أهلِ المدينةِ.. فهاجر g وأصحابُه أَرْسَالًا إلى المدينة واتَّخذوها وطنًا وكانتْ هذهِ الهِجْرةُ فيصلًا بين الإسلامِ والكفرِ، أعزَّ اللهُ بها الإسلامَ، وأذلَّ بها الكُفْرَ، وضرَبَ بها على عَهْدٍ من الأذى والعذابِ والخَسْفِ لَقِيَه المسلمون بمكة. فدَالَتْ الدَّولةُ للإسلامِ، ودُحِرَتْ دَوْلَةُ الكُفرِ، وجُعِلَتْ كلمةُ اللهِ هي العُلْيا، وكَلمةُ الذين كفروا السُّفلى، ووقَعَتْ بين أهلِ الإسلامِ والكُفْرِ مَعارِكُ اعترك فيها الحقُّ والباطلُ، وزهَقَ الباطلُ إنَّ الباطلَ كان زهوقًا! وتكلَّلتْ حياةُ المسلمين بعد ذلك بألوانٍ من الظَّفَرِ والنَّصْرِ يومَ بَدْرٍ والأحزابِ، كما مُنِيَتْ حياتُهم قبلَها بالضَّعْفِ والانكسار، وانكسر أهلُ الكُفْرِ خائبين لم ينالوا خيرًا.. وفتحَ اللهُ على نبيِّه مكَّة أحبَّ أرض الله إليه، وهو عزيزُ الجانبِ منيعُ الحِمى، ظاهرُ المعونة والتأييد والرعاية، ذلك الفتحُ المبينُ الذي أتى وكأنْ لم تُسْكَبْ يومًا على عَرَصات مكة العَبَرات، وتشتدَّ الآلامُ، لقد جاءَ الفتحُ وقد هَلَكَ مِنْ صَناديدِ الكفر من هَلَكْ، واتَّبع رسولَ اللهِ وسلك سبيلَ المؤمنين مِنْهُم مَنْ سَلَكْ! وأكد فضيلته أنَّ حديثَ الهجرةِ ليُنَادي بصوتٍ يَسْمَعُه مَنْ بَعُد كما يَسْمَعُه مَنْ قرُبَ: أنَّ الشَّدائدَ لا تدومُ، وأنَّ الاصطفاءَ قرينُ الابتلاءِ، وأنَّ المكارمَ مَنُوطةٌ بالمكارِهِ، وأنَّ العِبْرَةَ بكمالِ النِّهايات لا بنقصِ البدايات، وأنَّ العبدَ يَبْذُل الأسبابَ واللهُ يُنجِحُ المساعي، وأنَّ الفرجَ مع الصَّبر، وأنَّ النَّصْرَ معَ الكَرْبِ، وأنَّ معَ العُسْرِ يُسْرًا! إنَّها هجرةٌ تكشِفُ: أنَّ سِيرةَ النبيِّ الهادي عليه أفضل الصلاة والتسليم عليها تُوزَنُ الأقوالُ والأعمالُ والأحوالُ، وأنَّه لا خَيْرَ في هَدْيٍ يخالِفُ هَدْيَ محمد صلى الله عليه وسلم وأنَّه لَنْ يَصْلُح آخرُ هذه الأمَّةِ إلا بما صَلَح به أوَّلُها وأنَّ مَكابَدةَ المشاقِّ طريقُ الانطلاقِ.. ومِنْ ظُلمةِ الآلامِ تَنْبَلِجُ أساريرُ الآمال! هِجْرَةٌ تُفصِحُ: أنَّ المهاجرَ من هَجَر ما نهى اللهُ عنه ورسولُه g، وأنَّ هجرةَ الأبدانِ تنقطِعُ وهجرةَ القلوبِ إلى ربِّها دائمةٌ ما دامتِ الأرواحُ في الأجساد. // يتبع //14:45ت م 0044