تأتي الاعتداءات المتنقلة على مصارف في لبنان بـ"القنابل" فجر اليوم، لتحمل في طياتها العديد من الرسائل في التوقيت والمضمون، ولتعيد للذاكرة التفجير الذي استهدف بنك لبنان والمهجر في 12 يونيو 2016.
حينها كانت الرسالة واضحة إلى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ومن حزب الله تحديدا، نظرا لالتزامه التام في تطبيق المعايير الدولية المتبعة لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.
اليوم، السيناريو نفسه يتكرر ولكن الأدوات اختلفت والمعطيات تبدلت، مع قيام الثنائي الشيعي (حزب الله – حركة أمل)، بشيطنة شخص رياض سلامة وتحمليه وحده مسؤولية ما وصل إليه الوضع الاقتصادي والمالي والنقدي في البلاد، مستخدماً أداتين أساسيتين من باب الضغط عليه: انهيار الليرة اللبنانية والتهويل بأن ودائع الناس قد "تبخرت".
في الحقيقة، هناك طرفان رئيسيان يجتمعان على مصلحة مشتركة هي إزاحة سلامة من الحاكمية وإن تعددت الأهداف، وفق مصادر مطلعة في القطاع المصرفي اللبناني في حديث للعربية.نت:
- حزب الله بالدرجة الأولى، كون رياض سلامة هو "مهندس" تطبيق العقوبات الأميركية في لبنان، بالتالي غياب سلامة يعني بسط الحزب نفوذه على القرار الاقتصادي بشكل كامل.
- التيار الوطني الحر ( حليف حزب الله)، كونه يرى منه منافساً قوياً لجبران باسيل، صهر الرئيس اللبناني الحالي، في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
تقطع المصادر الشك باليقين، لتستبعد كل ما يحكي في الأروقة عن الاتجاه لإقالة الحاكم، "إذ أن ذلك غير قابل للتطبيق قانونيا، كونه يتمتع بصلاحيات واسعة بموجب المادة 26 من قانون النقد والتسليف، وإذا كان متورط بملفات فساد فليحقق معه ويحاكم أمام القضاء".
وإذا كان البعض يتسلح بعدم شفافية الحاكم ووضوح أرقام مصرف لبنان، يأتي تصريح وزير الاقتصاد الحالي راوول نعمة الخميس الماضي، في إحدى البرامج اللبنانية، لينسف تلك "الحجة" بتأكيده أن سلامة قد وضع بين أيدي رئيس الحكومة حسان دياب كل الأرقام، التي يستطيع مستشاريه الاطلاع عليها في إعداد الخطة الاقتصادية.
ما يطرح علامات استفهام حول أبعاد الهجمة الشرسة لدياب على الحاكم، والتي وصفت في الداخل اللبناني بـ"القنبلة الدخانية" لإيحائها بأن الأزمة المالية محصورة بسلامة دون سواه.
وتكشف مصادر مطلعة للعربية.نت، أن رد سلامة المرتقب على دياب "سيكون قاسيا، ولكن لن يكسر الجرة معه".
هذه اللعبة السياسية، كما وصفها المصدر المصرفي، سيكون لها تداعيات كارثية على الليرة اللبنانية، إذ "كل ما شهده سعر صرف الليرة من انهيار في السوق السوداء حيث لامس الدولار الأميركي الـ4 آلاف ليرة لبنانية، ما هو إلا عينة صغيرة إذا أزيح رياض سلامة عن رأس هرم القطاع المصرفي، وما سيستتبعه من رد أميركي قاسٍ".
يوافق الخبير الاقتصادي د.لويس حبيقة، في حديث للعربية.نت، على أن هناك حالة هلع تدفع الناس لشراء الدولار، وسط طلب مرتفع جدا مقابل شح بالعرض، قائلا:" قد يصل الدولار إلى 10 آلاف ليرة لبنانية أو أكثر، إذ لا حدود لارتفاع الدولار مقابل الليرة إلا "السماء"!
صيارفة غير مرخص لهم والدولارات بيد الحزب
بل أكثر من ذلك، إذ تتحدث المصادر عن شبكة صيارفة في الضاحية الجنوبية لبيروت غير مرخص لها، يقومون بشراء الدولار من المواطنين بسعر أغلى من المناطق الأخرى، لوصول العملة الصعبة بيد حزب الله.
وتكشف المصادر أن هناك أكثر من 1500 محل صيرفة غير مرخص لها من قبل مصرف لبنان، ولا تزال تعمل، وهو ما يخدم الأهداف الإيرانية وحليفها حزب الله بالتحايل على العقوبات الأميركية، والوصول للدولار.
ماذا لو خضع القطاع المصرفي لسيطرة حزب الله؟
ولكن السؤال الأكثر إلحاحاً الآن ماذا لو سيطر حزب الله على القطاع المصرفي اللبناني والقرار الاقتصادي في لبنان، هذا يعني أن العقوبات الأميركية ستشمل النظام المصرفي، ما يعني عزل لبنان تماما عن النظام المصرفي العالمي وقطع المصارف المراسلة الأميركية علاقاتها بالبنوك اللبنانية!
من يمعن التدقيق بمسار الأحداث، يرى أن الحملة الممنهجة لضرب سمعة القطاع المصرفي ليست وليدة اللحظة، بل تعود عمليا إلى بداية العام 2019، أي منذ 16 شهراً.. مع زلة لسان وزير المالية السابق علي حسن خليل المحسوب على فريق حركة أمل حليف حزب الله، عن توجه لإعادة هيكلة الدين العام قبل أن ينفيه سريعا.
حينها أحدث تصريحه خضة في السوق، وسارع المودعون إلى سحب 2.2 مليار دولار من المصارف في أول شهر من العام 2019.
ليستتبع ذلك، نبرة غير مسبوقة للأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في مايو 2019، حين رفع السقف عاليا في وجه البنوك اللبنانية قائلا: "يا أصحاب المصارف في لبنان، إن لم تتعاونوا في معالجة الوضع الاقتصادي فحتى رؤوس أموالكم لن تعود لكم".
استدعى ذلك آنذاك استنفار من مصرف لبنان المركزي، مع تهامس أنباء عن وضع مصرف لبنان تحت وصاية "وزارة المالية"، الحقبة الوزارية المحسوبة على حركة أمل.. قبل أن يتم لملمة الأمور كما تجري العادة، كون ذلك غير قابل للتطبيق فعليا لاستقلالية ميزانية مصرف لبنان.
لم ينكفئ حزب الله عن محاولاته في تشويه سمعة البنوك وضرب الثقة بالاقتصاد، إذ بعدما أدرج جمال ترست بنك على لائحة العقوبات لتورطه بعمليات مشبوهة، رفع نصر الله النبرة تصعيديا، واصفا في تصريح له في أيلول 2019 ما يحدث بـ"العدوان الذي يطال بنوكاً لا يملكها حزب الله ولا علاقة له بها".
سرعان ما ترجم هذا التصعيد، على الساحة النقدية اللبنانية "بشح" بالدولار في نهاية أكتوبر الماضي، تقاطعت مع معلومات تتحدث عن سحب رجال أعمال مقربين من حزب الله أموالهم من المصارف اللبنانية باتجاه سوريا.
حينها، بدأت عمليات التلاعب بسعر الصرف ووصل إلى 1700 و1800 بالسوق السوداء، مستغلين إغلاق البنوك واندلاع ثورة الشعب ضد الطبقة الفاسدة في 17 أكتوبر، مع ما ترافق من محاولات استغلال لترويج لانهيار الليرة، وسط هالة من الهلع أثيرت في نفوس الناس الذين هرعوا لسحب أموالهم وتكديسها في المنازل.
حالة الفوضى المنتشرة في البلاد آنذاك، سرعان ما تم استغلالها من قبل بعض الصيارفة الذين عمدوا إلى تهريب أموال طائلة من الدولارات نقداً إلى الخارج، وفق ما كشف الخبير الاقتصادي جاسم عجاقة حينها، مشيرا إلى أنه "تم إلقاء القبض على أحد الصيارفة يحاول تهريب 1.3 مليون دولار أميركي نقداً إلى الخارج كل 48 ساعة".
ومنذ ذلك الحين، دخلت البنوك في دوامة "إغلاق" متقطع ترافق مع عدم استقرار سياسي وأمني، واعتداءات على واجهات البنوك، إلى أن وصل الوضع الاقتصادي إلى حافة "الانهيار"...
فهل تفوقت حملة حزب الله على قوة "مصرف لبنان المركزي" في ضرب الثقة بالنظام المالي ككل ؟؟ وهل سيبسط نفوذه على كل مفاصل الدولة بما فيه القرار الاقتصادي ويضعه مع "طهران" بالخندق نفسه؟