كان الحديث عن فكرة ''المزاين'' وأثرها في المجتمع يشغل المجالس، الغريب أن الكثير كانوا معجبين بتلك المنافسات ويتابعونها ويعتبرونها من وسائل حماية ونشر الثقافة الوطنية. انتشرت حمى ''المزاينات'' في مختلف المناطق، بل المدن والمحافظات، كالنار في الهشيم، وكادت تكون الشغل الشاغل للجهات التنظيمية والأمنية. حاول المنظمون في البداية أن يضفوا على المنافسات صبغة القبيلة والفخر بها والشعور بالانتماء لفكر وتراث الآباء والأجداد. إلا أنه بحكم أن المجتمع إنساني بطبيعته وأن الفخر يتحول مع الوقت إلى تفاخر، والانتماء يتحول إلى عنصرية، والعقلانية تتحول إلى عصبية، تحول الإعجاب إلى نقد من جهات عديدة. كانت القبيلة في مرحلة معينة أكبر مكونات المجتمع، وهذا ما ربط الناس بها. لكن خطورة العودة للوراء كانت واضحة من اليوم الأول للعقلاء الذين رفضوا التوجه نحو الماضي وإهمال الحاضر والمستقبل. للحق أقول إن أكثر المتأثرين بتلك المفاهيم كانوا من المراهقين ومتوسطي السن الذين يميلون إلى العاطفة ويبحثون عن عنصر معين ينتمون إليه، ويتحدَّون به أقرانهم. هذه العقدة – مع الأسف - عادت للظهور بين المراهقين وما زالت مستمرة حتى اليوم، ولمن يشك في كلامي أن ينظر إلى بعض التغريدات والتعليقات بل جدران الأحياء التي تحمل (الغرافيتي) القبلي الذي صنعه البعض، ووقع فيه آخرون. جاءت المرحلة التالية عندما أراد عقلاء القبائل أن يحدوا من الفكر العصبي والشد والجذب القبلي، فقاموا بترتيب مواقعهم ونظموا فيها المخيمات والحفلات والمحاضرات والمسابقات الدينية التي شارك فيها الكثير من علماء الوطن وحاولوا أن يركزوا فيها على أمرين مهمين هما: - العناية بالفقراء والمحتاجين ودعم صناديق الإحسان والرعاية للفقراء والأيتام والأرامل والمطلقات. كان دافع هذا هو ما ساد في تلك الأيام من إنفاق وبذخ وإسراف في الحفلات التي يقيمها التجار وأصحاب رؤوس الأموال في محاولة لتكوين اسم ومركز شخصي لهم في ثنايا القبيلة. هذا يتفق مع وضعهم في هرم ''ماسلو'' للاحتياجات البشرية، فالإحساس بالذات هو ما يحكم كل الناس في هذه المرحلة من الجدة وسعة الرزق. فلا نستغرب هذا ولا ننسبه إلى القبيلة، إنما إلى هذا التجمع الكبير الذي يبحث فيه كل عن مكانه. - البعد عن القبلية والعنصرية القبلية والتهور الشبابي الذي أساء إلى القبائل. هذا كان الهم الأكبر لرموز القبائل لأنه كان يهدد بنشوب المشكلات وارتكاب الجرائم حتى بين أبناء الأفخاذ المختلفة من القبيلة نفسها، وكان متوقعاً، لأن مفهوم الانتماء العشائري هو أخطر ما يواجه الدولة التي تتكون من نسيج ''بانورامي'' مختلف الألوان والمكونات. أزعم أن هذه المحاولة لم تحقق النتيجة المرجوة، وذلك لأن الأساس كان خاطئا لدرجة أن البعض أصبحوا يفضلون أن يحاضرهم شيخ ينتمي للقبيلة أو المحافظة نفسها. إذاً لم تكن هذه هي الوسيلة الملائمة لممارسة هذه الهواية أو دعم بقائها وتوريثها للأجيال. تدخلت عندها الجهات المختصة وألغت مفهوم تنظيم ''المزاينات'' في مختلف المواقع، وأبقت على موقع واحد يتم فيه تنفيذ المنافسات بشكل بعيد عن الحساسيات والعنصرية والعصبية. فكانت ''أم رقيبة'' المكان الوحيد. رسمياً – كان هذا الأمر مطبقاً، لكن ''المزاينات'' والمنافسات استمرت على استحياء في مواقع أخرى، وهي إلى اليوم تنتشر على شكل مزادات للبيع فيها ما فيها من الملاحظات والخطورة التي يجب أن يتنبه لها. القضية التي لا تزال في حاجة إلى إعادة النظر والتحريم والتجريم هي قضية الإسراف غير المحمود الذي يحدث قبل احتفالات أم رقيبة وخلالها. الإسراف الذي يجعل شخصا يدعو ضيوفه ويدلهم على موقع المخيم الذي يقيم فيه الحفل باستخدام شحنات تزيد على المائة من الحطب. قام المضيف بإشعال النار على مسافة تتجاوز العشرة كيلو مترات بين الطريق الرئيس وموقع المخيم. تخيلوا أن تكون النيران على طرفي الطريق على مسافة عشرة كيلو مترات في زمن gps الذي يحدد موقع ''الجن الأزرق''، لكنه ''الهياط'' كفانا الله وإياكم شره. يحكي لي أحدهم - بحرقة – ويحلف أنه شاهد سيارة '' تغرز'' في الرز المرمي على جانب أحد الخطوط. أمر لا يمكن أن يصدقه أحد في عصرنا هذا. كيف يمكن أن يفعل شخص مثل هذا الأمر في مملكة مسلمة؟ كيف يمكن أن يتجرأ إنسان أن يرمي هذا الكم في بلد يزيد فيه مستفيدو الضمان على المليون؟ ليته أرسل قيمة الحفل إلى جمعية خيرية أو حتى دعم به صندوق إعانة الفقر. لكن هل هذا السلوك غير المنطقي مبرر؟ يقول بيل جيتس، وهو أغنى من أغنى رجل في بلادنا، أن أصرف مالي في الخير أفضل لي من أن يتضخم في السوق. نعم رجل تبرع بكامل ثروته لأعمال الخير، وجاء إلى المملكة فاستقبلته الجمعيات الخيرية ومريدو العون للمحتاجين يريدون منه أن يسهم في دعم برامجهم، وكان أول ما طلبه هو تقديم برامج علمية أصرف عليها لأنني لا أدفع وحسب، إنما أتأكد أن مالي يذهب في مكانه. لا يهمني من أين جمع هؤلاء أموالهم الطائلة، قد يكون هذا مهماً للجهات الأمنية ومسؤولي أسواق الأسهم ومنظمي اقتصاد البلد، و''الإنتربول'' حتى. ما يهمني هو أثرهم في مستقبلي ومستقبل أبنائي ومستقبل البلد بكليته، فالله تعالى يقول في حقهم (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ۖ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا * مَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَاۚ). ويقول - جل وعلا (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ ۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرا). اللهم هل بلغت... اللهم فاشهد. الإقتصادية اليوم الجمعة ص 13