رسم الفنان الفرنسي ديفيد هذا العمل التاريخي وهو في ذروة شعبيته وحماسه.
فقد كان هذا الفنان جزءا من دائرة ضيقة من الأصدقاء من مفكرين وساسة وعلماء وكان من بينهم شيرنيير ولافاييت ولافوازييه الذين كانوا يضغطون من اجل إصلاحات سياسية راديكالية في فرنسا الملكية.
في 1787 أنجز ديفيد رائعته "موت سقراط" التي تصور اللحظات الأخيرة في حياة المفكر والفيلسوف الإغريقي العظيم.
كانت حكومة أثينا قد أصدرت حكمها على سقراط وخيرته ما بين الموت أو النفي، عقابا له على دروسه ومحاضراته التي كانت تثير الشكوك في نفوس تلاميذه وتحرضهم على احتقار الآلهة والتمرد عليها.
وقد رفض سقراط النفي في النهاية وفضل عليه الموت بتناول السم.
واصبح سقراط مثالا آخر على التضحية بالنفس في سبيل المبدأ.
في اللوحة يبدو سقراط متماسكا وقد غمرته غلالة من النور رمزا للخلود، بينما سيطر على اتباعه الحزن واليأس، ومن خلال توزيع الضوء والعتمة استطاع ديفيد تحويل صورة من صور الشهادة إلى دعوة مدوية للنبل والتضحية والثبات على المبدأ حتى في وجه الموت.
ويبدو سقراط مستمرا في الحديث إلى تلاميذه حتى وهو يمد يده إلى كاس السم، مؤكدا استهانته بالموت والتزامه الذي لا يهتز بأفكاره ومبادئه.
وبدا اتباعه ومريدوه وهم ملتفون حوله في حزن، كاشفين عن ضعفهم وعجزهم أمام ذلك الامتحان العسير.
بعض المصادر التاريخية تذكر أن التلاميذ حاولوا إقناع سقراط بتهريبه إلى الخارج لكنه رفض الفكرة على اعتبار أنها خرق للقانون لا يصح ولا يجوز.
في الزاوية البعيدة من اللوحة يمكن رؤية زوجة سقراط وهي تغادر السجن ، بينما جلس تلميذه الوفي أفلاطون عند مؤخرة السرير، وراح كريتو يمسك بقدم سيده وهو يواسيه.
بالنسبة لمعاصري الفنان ديفيد فان المشهد يستدعي الأحداث الكبيرة التي شهدتها فرنسا في ذلك الوقت أي في العام 1787، مثل وأد محاولات إصلاح النظام الملكي وحل مجلس الأعيان والعدد الكبير من السجناء السياسيين داخل سجون الملك وفي المنفى.
وقد أراد ديفيد من خلال هذه اللوحة إيقاظ الأنفس الخانعة وتحريضها على البذل والتضحية، إنها بمعنى ما دعوة صريحة لمقاومة السلطة الغاشمة.
وعندما كشف الستار عن لوحة "موت سقراط" كان توماس جيفرسون حاضرا وقد بهره المشهد كثيرا، بينما وصفها السير جوشوا رينولدز بأنها لا يمكن أن تقارن سوى برسومات مايكل انجيلو في سقف كنيسة سيستين وبلوحة ستانزي لرافائيل.
قبل أن يشرع ديفيد في رسم هذه اللوحة استشار لأسابيع طويلة أصدقاءه المقربين بشأن تفاصيلها ودلالاتها وقرأ العديد من المراجع التاريخية التي تحكي عن وقائع المحاكمة التي جرت في العام 399 قبل الميلاد. وقد استند في الأساس إلى رواية افلاطون عن الحادثة، لكنه أيضا اعتمد على مضمون كتاب للفيلسوف الفرنسي ديديرو ، بينما استوحى منظر أفلاطون الجالس على طرف السرير من مقطع من رواية للكاتب الإنجليزي ريتشاردسون ..
كان الفنان جاك لوي ديفيد مصنفا في عداد الفنانين النيوكلاسيكيين، وكان يروّج في أعماله لقيم التنوير والثورة الفرنسية
وقد كان الفيلسوف سقراط نفسه أول زعيم لأول حركة تنويرية في التاريخ دعت إلى تغليب العقل على الجهل والخرافة.....