كان " رستم " هو قائد الفرس في هذه المعركة بأمر من ملكهم " يزدجرد " ، وقد حاول " رستم " التنصل من هذه المهمة ، غير أنه اضطر للقيام بها تحت إلحاح ملكهم " يزدجرد " ، وكانت معنويات الفرس منحطة تمامـًا ، نظرًا للانتصارات الباهرة التي سجلها المسلمون في معاركهم السابقة ، وكان من الحيل الرائعة التي قام بها " سعد بن أبي وقاص " ـ رضي الله عنه ـ إرساله المجموعات الاستكشافية من جنوده ، وبعثه السريا لتأتيه بالأخبار ، وتزوده بالطعام ، حتى عرفت أيام قبل " القادسية " بأسماء ما كان فيها من طعام ، كيوم " الأباقر " ويوم " الحيتان " ، وكان في هذا استنزاف للقوات الفارسية .
ولما اقترب الجيشان بدأت المراسلة ، فطلب " رستم " من " سعد " ـ رضي الله عنه ـ أن يبعث إليه رجلاً من رجاله ، فاختار له " سعد " ـ رضي الله عنه ـ أسدًا من أسوده ، وهو " ربعي بن عامر " ـ رضي الله عنه ـ ، وقبل قدوم " ربعي " ـ رضي الله عنه ـ لجأ " رستم " إلى طريقة الأغراء ، فزين له مجالسه بالنمارق ، وأظهر اللآلئ والياقوت والأحجار الكريمة ، بيد أنهم فوجئوا برجل قصير القامة ، عليه ثياب صفيقة ، وأسلحة متواضعة ، وفرس صغير ، ولم يزل " ربعي " ـ رضي الله عنه ـ راكبـًا فرسه حتى داست على الديباج والحرير ، ثم نزل عنها وربطها في قطع من الحرير مزقها ، وأقبل على " رستم " فقالوا له : " ضع سلاحك " ، فقال : " إني لم آتيكم ، وإنما دعوتموني ، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت " ، فقال " رستم " : " ائذنوا له " ، فأقبل ـ رضي الله عنه ـ يتوكأ على رمحه فوق النمارق ، فخرق أكثرها ، فقال له " رستم " : " ما الذي جاء بكم " ؟ ، فقال ، ويا نِعْمَ ما قال : " إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه ، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه ، ومن أبى قاتلناه أبدًا حتى نفضي إلى موعود الله " ، فقال " رستم " وما موعود الله " ؟ ، قال : " الجنة لمن مات على قتال من أبى والظفر لمن بقى " ، قال " رستم " : " قد سمعت مقالتك ، فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا " ؟ ، قال : " نعم كم أحب إليكم ؟ يومـًا أو يومين ؟ " ، قال : " لا بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا " ، فقال : " ما سن لنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن نؤخر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث ، فانظر في أمرك وأمرهم واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل " ، قال " رستم " : " أسيدهم أنت " ؟ ، قال : " لا ، ولكن المسلمون كالجسد الواحد يجير أدناهم على أعلاهم " ، فاجتمع " رستم " برؤساء قومه فقال : " هل رأيتم قط أعز وأرجح من كلام هذا الرجل " ؟ ، فقالوا : " معاذ الله أن تميل إلى شيء من هذا وتدع دينك إلى هذا الكلب ! ، أما ترى من ثيابه " ؟ ، فقال : " ويلكم لا تنظروا إلى الثياب ، وانظروا إلى الرأي والكلام والسيرة ، إن العرب يستخفون بالثياب والمأكل ، ويصونون الأحساب " .
هذا موقف " ربعي بن عامر " ـ رضي الله عنه ـ مع " رستم " ، فهل رأيت قوة وبيان ، وسرعة بديهة ، ووضوح حجة ، ورباطة جأش ، وثبات موقف كهذا ؟
إنه حدد غاية المسلم ، وهي " إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد " ، وحدد مصير المسلم ، وهو " موعود الله بجنة الله " ، وإن كل هذه الإغرءات من الحرير والذهب والنمارق والأرائك لم تهز شعرة منه ، ولم تستطع أن تشغله عمَّا أعده الله له في موعوده ، حيث له فيها ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر .
2- " رستم " و " المغيرة بن شعبة " ـ رضي الله عنه ـ :
لما رأى " رستم " ما رأى من " ربعي بن عامر " ـ رضي الله عنه ـ أرسل إلى " سعد " ـ رضي الله عنه ـ يطلب رجلاً آخر ليرى هل هؤلاء القوم كلهم على وتيرة واحدة أم لا ؟ ، فأرسل له " سعد " ـ رضي الله عنه ـ " المغيرة بن شعبة " ـ رضي الله عنه ـ ، لكن " رستم " غير من لهجته ، فأظهر حدته وأبدى غضبه وثورته ، فقال أول ما قال لـ " المغيرة " : " إنما مثلكم في دخول أرضنا مثل الذباب رأى العسل فقال من يوصلني إليه وله درهمان ؟ ، فلما سقط عليه غرق فيه ، فجعل يطلب الخلاص ، فلم يجده ، فجعل يقول من يخلصني وله أربعة دراهم ؟ ، ومثلكم كمثل ثعلب ضعيف دخل جحرًا في كرم ، فلما رآه صاحب الكرم ضعيفـًا رحمه فتركه ، فلما سمن أفسد شيئـًا كثيرًا ، فجاء بجيشه ، واستعان عليه بغلمانه ، فذهب ليخرجه فلم يستطع لسمنه ، فضربه حتى قتله ، فهكذا تخرجون من بلادنا ، وقد أعلم أن الذي حملكم على هذا معشر العرب الجَهدُ الذي قد أصابكم فارجعوا عنَّا عامكم هذا ، فإنَّكم قد شغلتمونا عن عِمارة بلادنا ، وعن عدوّنا ، ونحن نُوفِر لكم ركائبكم قمحـًا وتمرًا ، ونأمر لكم بكُسوة ، فارجعوا عنَّا عافاكم الله ! " .
فقال " المغيرة بن شعبة " ـ رضي الله عنه ـ :
" لا تذكُر لنا جهدًا إلاَّ وقد كنَّا في مثله أو أشدَّ منه ؛ أفضلُنا في أنفسنا عيشـًا الذي يقتل ابن عمه ، ويأخذ ماله فيأكله ، نأكل الميتة والدم والعظام ، فلم نزل كذلك حتَّى بعث الله فينا نبيـًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنزل عليه الكتاب ، فدعانا إلى الله وإلى ما بعثه به ، فصدّقه منا مصدّق ، وكذّبه منَّا آخر ، فقاتل مَن صدّقه من كذبه ، حتى دخلنا في دينه ؛ من بين مُوقن به ، وبين مقهور ، حتى استبان لنا أنه صادق ، وأنه رسول من عند الله ، فأمرنا أن نقاتل من خالفنا ، وأخبرنا أن من قُتل منَّا على دينه فله الجنَّة ، ومن عاش ملك وظهر على من خالفه ، فنحن ندعوك إلى أن تؤمن بالله ورسوله ، وتدخل في ديننا ، فإن فعلت كانت لك بلادك ، لا يدخل عليك فيها إلا من أحببت ، وعليك الزكاة والخُمس ، وإن أبيت ذلك فالجزية ، وإن أبيت ذلك قاتلناك حتى يحكم الله بيننا وبينك " .
قال له " رستم " : " ما كنت أطنُّ أني أعيش حتى أسمع منكم هذا معشر العرب ، لا أمسي غدًا حتى أفرُغ منكم وأقتلكم كلّكم " .
أرأيت أخي الحبيب كيف كان رد " المغيرة " ـ رضي الله عنه ـ أمام هذه التهديدات ، وتلك الإغرءات ، لقد قابل تهديداته باستهزاء ، وإغراءته بإعراض ، ولم ينس أن يعرض على " رستم " دعوة الله ، فلما أصر " رستم " على عناده واستكباره ، وجهز جيشه وجنده ، كان جزاؤه القتل ، وكان ذلك على يد " هلال بن عُلَّفـة التيمي " .
3- " سعـد " ـ رضي الله عنه ـ وسلمى :
كان اختيار " سعد " ـ رضي الله عنه ـ لهذه المعركة قائدًا هو قرار الفاروق " عمر " ـ رضي الله عنه ، هو " وأبو عبيدة " ـ رضي الله عنه ـ ، وقيل يومها " الأسد في براثنه " ، غير أن " سعدًا " ـ رضي الله عنه ـ كان قد أصيب بجروح ملأت قروحها ، فخذيه ، وإليتيه ، فكان ـ رضي الله عنه ـ يدير المعركة من مكان مرتفع ، فلما رأته زوجته " سلمى " ، وكانت قبله عند " المثنى بن حارثة " ، فلما توفي ، وقضت عدتها تزوجها " سعد " ـ رضي الله عنه ـ ، فلما جالت الخيل ورأت " سلمى " ما رأت ، قالت : " وامثناه ولا مثنى لي اليوم " ، فضربها " سعد " ـ رضي الله عنه ـ واعتذر للناس لما لاموه على عدم حضور المعركة ، فقد قال أحدهم :
نقاتل حتـى أنزل الله نصـره و" سعد " باب " القادسية " معصم
فأبنا وقـد آمـت نساء كثيرة ونسـوةُ " سعد " ليس فيهنَّ أيـم
فلما أراهم " سعد " ـ رضي الله عنه ـ ما به من القرح عذره الناس ، وأيم الله إن " سعدًا " ـ رضي الله عنه ـ لم يكن ليجبن أو ليترك المعركة ، وهو أول رامٍ في الإسلام ، وأول من أسال دمـًا في الإسلام .
ولكن ألا ترى إلى غيرة المرأة على دين الله ، وكيف تستحث زوجها ليخوض غمار المعركة ، ولم تكن " سلمى " وحدها ، بل كان نساء عصرها كلهنَّ كذلك .
4- " أبو محجن " ـ رضي الله عنه ـ و " البلقاء " :
كان " أبو محجن " قد حبسه " سعد " ـ رضي الله عنه ـ عند " زبراء " أم ولد " سعد " ـ رضي الله عنه ـ ، لشربه الخمر ، فلما سمع " أبو محجن " ـ رضي الله عنه ـ صهيل الخيل ، وقعقعة السيوف ، خاطب " زبراء " قائلاً : " يا زبراء أطلقيني ولك عليَّ عهد الله وميثاقه ، لئن لم أقتل لأرجعن إليك حتى تجعلي الحديد في رجلي " .
وكان مما قال ـ رضي الله عنه :
كفى حزنا أن تردى الخيل بالقنا وأترك مشدودًا علي وثاقيا
إذا قمت عناني الحديد وأغلقت مصاريع دوني لا تجيب المناديا
وقد كنت ذا مالٍ كثير وإخوةٍ فقد تركوني واحدًا لا أخايا
فأطلقته " زبراء " وحملته على فرس لـ " سعد " يقال له " البلقاء " ، وخلَّت سبيله ، فجعل ـ رضي الله عنه ـ يشد العدو شدًا ، و " سعد " ـ رضي الله عنه ـ ينظر إليه ويقول الضرب ضرب " أبي محجن " والكر كر " البلقاء " ، فلما أن فرغوا من القتال ، وهزم الله جموع الفرس ، رجع " أبو محجن " إلى " زبراء " وفاء بوعده بعد أن أرضى ربه بقتال عدو الله ، ووفاء بوعده لـ " زبراء " ، فأدخل رجله في قيده ، فلما نزل " سعد " ـ رضي الله عنه ـ من رأس الحصن رأى فرسه تعرق ، فعرف أنها قد ركبت ، فسأل عن ذلك " زبراء " فأخبرته خبر " أبي محجن " فأخلى سبيله .
إن " أبا محجن " ـ رضي الله عنه ـ وقع في ذنبه هذا ، لكنه لم يلبث أن ندم على فعله ، ولقد تحرك الإيمان في قلبه ، حتى بدت الحسرة عليه وهو مقيد في وقت يحتاج فيه الإسلام إلى نصرته ، ولست أدري من أي المواقف نعجب ؟! ، من حرقة " أبي محجن " على الإسلام ، أم من صدقه ووفائه بعهده ووعده مع " زبراء " ؟ ، أم من إخلاص الرجل ورضائه بأن يكون في القيد بعد قتاله ، ولا يعلن عن موقفه حتى علم به " سعد " ـ رضي الله عنه ـ ، وإن هذه لدلالة رائعة على أن كل إنسان مطالب بنصرة هذا الدين ، وأن صاحب المعصية لا تعفيه معصيته من نصرة دين الله جل وعلا .
وأخيرًا فإن يوم " القادسية " يوم من أيام الله ، ومعركة فاصلة من معارك
الإسلام ، نسأل الله أن يعيد لنا هذه الأيام ، وتلك المعارك ليعود للإسلام