يمر أهل السنة في المشرق العربي والإسلامي اليوم بمرحلة حرجة، شديدة الحرج.. خطيرة، شديدة الخطورة. يأتي على رأس الأسباب التي أدت إلى هذا الوضع الحرج الخطير، ضعف الشعور بالهوية، وتشتت الرؤية بشأنها؛ وذلك لتخلف ثقافة الجمهور، وفقدان فقه الهوية عند العلماء، وعدم وجود أثر له لا في ميدان العلم ولا الحركة العامة للثقافة. ما من شك في أن كثيراً منا يقف حائراً لو سئل: هل أنت مسلم أم سني؟ أو هل أنت مسلم أم عربي (إن كان المسؤول عربياً)؟ أو هل أنت إسلامي أم عروبي (ثمت فرق بين العربي والعروبي)؟ ويحتاج إلى وقت يسترجع فيه فكره، ويستجمع معلوماته ليجيب. وقد يخطئ في الإجابة، وربما يتصور أن تناقضاً يسري بين هذه الهويات. سأجيب – إن شاء الله – عن هذه الأسئلة في مقال خاص. وما يهمني هذه اللحظة هو أننا سنة المشرق نتعرض إلى تهديد في هويتنا السنية، ونعاني من تشتت الرؤية الداخلية حيالها: ما بين ساخر منها مستنكف باسم القومية والوطنية (العلمانية)، ومميع لها غير مقدر لأهميتها باسم الإسلام والإسلامية. وإذا كان لكل هوية ملامح وخطوط وكلمات تحددها، كما أن لها رموزها وأعلامها المميزة لها كما يميز الشعار والعلم الخاص الدولة والفريق والدائرة المعينة. ولا تسمح أي جهة بتشويه علمها وشعارها؛ لأن في ذلك تهديداً لوجودها. إذا كان ذلك كذلك فإن معاوية بن ابي سفيان (رضي الله عنه) خط واضح من خطوط الملامح التي تحدد هوية أهل السنة في كل زمان ومكان، وعلامة بارزة في التمييز المفروض والتمايز المطلوب بين السنة والشيعة. إن الطاعنين في معاوية ليسوا موضوعيين، ولا مؤدبين بأدب الباحثين عن الحق أو الحقيقة. فهم لا يريدون معاوية نفسه، وإنما يرومون ما وراءه من الصحابة؛ وصولاً إلى الطعن في الدين وتفريق أمة العرب والمسلمين. وقد أدرك أسلافنا هذه الحقيقة. ومن شواهد إدراكهم ووعيهم بما حولهم، ما روي من أن أبا عبد الرحمن النسائي سئل عن معاويةَ بن أبي سفيان فأجاب بقوله: (إنما الإسلام كدارٍ لها بابٌ، فبابُ الإسسلام الصحابة، فمن آذى الصحابةَ إنما أرادَ الإسلام، كمن نَقرَ البابَ إنما يريدُ دخولَ الدار. قال: فمن أراد معاويةَ فإنما أراد الصحابة)([1]). ومن أدرك هذه الحقيقة يدرك أهمية معاوية في كينونة هويتنا السنية الإسلامية. وأجد بعضاً أو كثيراً ممن تحدث من أهل السنة عن سيدنا معاوية رضي الله عنه: إيجاباً أو سلباً، إنما حديثه حديث من لا يعرفه تمام المعرفة.. حديث من هو في حاجة إلى دقة أكثر وبعد أعمق في إدراك السياسة وأغوارها البعيدة، ومعرفة العلاقة الشائكة بين الشريعة والسياسة.. حديث من يغفل أو يتغافل عن أثر الواقع في التعاطي مع الأحكام الشرعية.. ويغيب عن باله أو فهمه معنى سياسة الدول ومعاناة قيادة الناس، لا سيما حين يستلم القائد دولة خرجت للتو من حرب أهلية دامت نصف عقد من الزمن، وهي في مرحلة التأسيس والأعداء حولها من كل جانب. فلا يمكنه أن يقدر عظمة من نجح في ذلك كله! أما الذين يعرفونه فلهم شأن آخر، وقول آخر. الحديث عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما ذو شجون وتشعبات، ومتون وحواش. ولهذا سأبدأ في حديثي عن هذا العلم البارز في مسيرة الإسلام من المعالم البارزة في مسيرة التقييم، وبناء المعرفة القائم على العلم وقواعده من جهة، وعلى اختبار المعلوم في الميدان من الجهة الثانية.
منزلة الصحبة أول هذه المعالم هو أن معاوية بن أبي سفيان أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وأصحاب النبي في ميزان الله تعالى لهم خصوصية، ليست لغيرهم ممن جاء من بعدهم. فهم في اعتقادنا - نحن أهل السنة والجماعة - كلهم عدول، وأنهم حازوا درجة الإيمان التي تؤهلهم لدخول الجنة دون تخلف أحد منهم. وهذا شيء لم يكن لأي جيل لاحق من أجيال أمة الإسلام إلى يوم القيامة. فالله تعالى قال فيهم: (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (الحديد:10). يقول شيخ الإسلام: والصحبة اسم جنس تقع على من صحب النبي صلى الله عليه وسلم قليلاً أو كثيراً، لكن كل منهم له من الصحبة بقدر ذلك، فمن صحبه سنة أو شهراً أو يوماً أو ساعة أو رآه مؤمنا، فله من الصحبة بقدر ذلك، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (يغزو فئام من الناس فيقولون: هل فيكم من صحب النبي صلى الله عليه وسلم؟). وفي لفظ (هل فيكم من رأى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقولون: هل فيكم من صحب من صحب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؟) وفي لفظ (هل فيكم من رأى من رأى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقولون: هل فيكم من رأى من رأى من رأى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؟) وفي لفظ (من صحب من صحب من صحب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم). وفي بعض الطرق فيذكر في الطبقة الرابعة كذلك. فقد علق النبي صلى الله عليه وسلم الحكم بصحبته وعلق برؤيته، وجعل فتح اللّه على المسلمين بسبب من رآه مؤمناً به. وهذه الخاصية لا تثبت لأحد غير الصحابة؛ ولو كانت أعمالهم أكثر من أعمال الواحد من أصحابه صلى الله عليه وسلم.. وقد استفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحاح وغيرها من غير وجه أنه قال (خير القرونِ القرنُ الذي بعثت فيهم، ثم الذين يَلُونهم، ثم الذين يلونهم). إ.هـ. وللصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان – إضافة إلى صحبته - فضائل كثيرة وأعمال جليلة وإنجازات عظيمة زخرت بها كتب الحديث والسير والتواريخ. لكنه - رغم ذلك – وجهت إليه إساءات ومطاعن، بعضها مفترى مختلق، وبعضها زيد فيها ونقص منها: إما بسبب التعصب أو بسبب الجهل. وبعضها فضائل فهمت على غير وجهها. ولو اقتصر الطعن على الأعداء والجهلاء لهان الأمر، ولكن تعدى ذلك إلى بعض أهل السنة، ومنهم علماء وفضلاء! وليس عنتي من رد شبهات الأعداء والخصوم؛ فذلك يسير على من يسره الله تعالى له. إنما العنت من تخليطات الأنصار والأصحاب، وأخذهم بقصص وأقاويل مخترعة متناقضة، فيروونها كما وردت دون تمحيص ولا نظر لا في سند ولا متن، ولا ربط بغايات الأعداء القريبة ومراميهم البعيدة، أو معرفة بمنهجهم وطرقهم الخفية والظاهرة التي يتوصلون بها إلى الطعن المقصود. فيقعون في التناقض من جهة، ومن جهة ثانية يتخذهم الشعوبيون حجة لما يقولون، وقنطرة لما يرومون، والله المستعان على ما يصفون. وأكثر ما توجه إليه الطعن بسببه، تقليده ولده يزيد الأمر من بعده، وتداعيات ذلك، مثل قولهم: إنه غيّر نظام الحكم في الإسلام من الخلافة إلى الملك، وجعله ينال بالتوارث لا بالشورى. لكنني قبل أن أناقش هذا الموضوع وددت أن أقدم له بذكر طائفة من أهم فضائل سيدنا معاوية رضي الله عنه. مختصر سيرته الذاتية هو أمير المؤمنين معاوية، بن أبي سفيان صخر، بن حرب، بن أمية، بن عبد شمس، بن عبد مناف، بن قصي، بن كلاب، بن مرّة، بن كعب، بن، لؤي، بن غالب، بن فهر، بن مالك، بن النضر وهو قريش، بن كنانة، بن خزيمة، بن مدركة، بن إلياس، بن مضر، بن نزار، بن معد، بن عدنان. وأمه هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف. يلتقي نسبه برسول الله صلى الله عليه وسلم في الجد الرابع (عبد مناف). ولد معاوية بمكة قبل البعثة بسنتين، أي كان عمره يوم الفتح (23) سنة. أرسله أبو بكر الصديق رضي الله عنه على رأس جيش مدداً لأخيه يزيد بن أبي سفيان رضي الله عنهما، فكان تحت إمرة أخيه، في فتح صيدا وبيروت وبقية سواحل الشام على البحر المتوسط. وشهد اليرموك وفتح دمشق تحت راية أخيه يزيد، ثم فتح الشام كلها. وبعد موت أخيه يزيد بن أبي سفيان سنة (18) في طاعون عمواس، ولاه عمر بن الخطاب ولاية الشام، وكان مرضياً من الرعية وجميع المسلمين؛ لم يشكه أحد، ولم يؤثر عنه ظلم أو تقصير. وأقره الخليفة عثمان بن عفان في خلافته عليها. تولى إمارة المؤمنين وخلافة المسلمين عام (41) بعد صلحه مع الحسن بن علي رضي الله عنهما، واتخذ من دمشق عاصمة للدولة الإسلامية. وسمي ذلك العام بـ(عام الجماعة) تيمناً وفرحاً بما أنعم الله تبارك وتعالى به على المسلمين من الاجتماع والخروج من فتن دامت أكثر من عشر سنين، وحروب أهلية استمرت ما يقرب من خمس سنين! وتحقق في سيدنا الحسن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين)([2]). واستمر معاوية في الملك حتّى وفاته سنة (60)، فكان بذلك أميرًا (20) عاماً وخليفةً (20) عاماً أُخرى. كانت من أعظم وأبرك وأعدل وأرحم ما مر في تاريخ الإسلام من عهود.
مؤسس الدولة الثالثة في الإسلام وبذلك يكون معاوية مؤسس الدولة الثالثة للإسلام، وقائد الموجة الثانية لاندفاعته بعد أبي بكر الصديق رضي الله عنه. ففي عهده تعافت دولة الإسلام مما أصابها من الضعف، الذي بدأ بالتسلل إليها في منتصف خلافة عثمان بن عفان، واستمر طيلة خلافة علي بن أبي طالب. وتجددت الفتوحات بعد توقفها زهاء عقد من الزمان. وأدرك بثاقب نظره أن الأمة أصبحت بأمس الحاجة إلى نظام جديد للحكم، بعد أن توسعت الدولة، وكثرت الأمصار، وأزداد عدد الرعية، وتغير الناس، فما عاد النظام السابق ملائماً للتغييرات الجديدة. أو قل: ما عادت التغييرات الجديدة ملائمة للنظام السابق رغم عظمته وجماله! فخرج هذا الرجل العظيم بالأمة من عنق الزجاجة إلى فضاء رحب وجدت عناصر الحضارة فيه بيئتها الخصبة لمواصلة التفتح والنماء.