في هذا الوقت من السنة، وعند صدور الميزانية، فالكثير من إعلامنا يكرر الحديث عن «ميزانية الخير والعطاء»، ويفتخر بحجم الفائض المالي، وهو في واقع الأمر نقل رصيد بترولي من باطن الأرض، وتحويله إلى أرصدة ماليَّة فوق الأرض، وهو ما يثير شهية من يستهويهم الصرف على مشروعات، وبسرعة غير منطقية، لمُجرَّد أن الأموال موجودة.
المجتمع يتحدث عن مشكلة التضخم، كما لو أنهَّا مشكلة عالميَّة مستوردة، أما مشكلة البطالة، فينظر إليها بنظرة ضيقة، تقتصر على رفع رواتب موظفي الأمن من 1.200 ريال، إلى 3.000 ريال، وهنا لا بُدَّ من طرح عدد من الملاحظات:
-التوسُّع في المشروعات (بسبب توفر التمويل) تُؤدِّي تلقائيًّا إلى زيادة نسبة العمالة الأجنبية، لأن أغلب المشروعات هي مشروعات بناء، وتشغيل، وصيانة، ونظافة، وكلها وظائف لا ينخرط فيها السعوديون.
-التوسُّع في الكثير من المشروعات ستُؤدِّي بالتضخَّم أن يأكل الأخضر واليابس، من كلفة المشروعات، وخير مثال على ذلك هي أزمة الإسمنت، حيث إنه بالرغم من إيقاف التصدير، فأسعار هذه السِّلعة تزيد بسبب التوسُّع الكبير في المشروعات، وكثير من تلك المشروعات كان يمكن تنفيذها على مدى خمس سنوات، بدلاً من سنتين.
-صحيح أننا نحاول التعويض عن العقد الضائع، وهو عقد التسعينات الميلادية، الذي توقفت فيه حركة التنمية، وخصوصًا الاستثمار في البنية التحتية، ولكن لا يجوز التعويض عن خطأ بخطأ أكبر.
-نتيجة ذلك الكم الكبير من المشروعات، والسُّرعة المحددة لتنفيذها، أصبح لدينا أكثر من ثلاثة آلاف مشروع متعثر، بما فيها مشروعات الشركات الصينية، التي استقدَّمت لتخفيف الضغط، والإسراع في الإنجاز.
-لماذا الإسراع في استخراج النفط؟ إذا كانت النتيجة هي تضخَّم في الأسعار؟ وفشل في الإنجاز، والمزيد من العمالة الأجنبية؟
أخيرًا دعوني أقص لكم قصة، ذات علاقة، قيلت لي خلال عملي السابق في وزارة المالية، وهي على النحو التالي:
وزير المالية، سمو الأمير مساعد بن عبد الرحمن، -رحمه الله- (1962 - 1974م)، كان محافظًا في سياسته المالية، بسبب تواضع الموارد في عقد الستينات، ولكن عندما تحسنت أسعار البترول في عقد السبعينات، وبدأت طلبات الوزارات باعتماد مبالغ كبيرة، وهو كان يعرف أن الاقتصاد غير قادر على استيعاب تنفيذ تلك المشروعات، ولم تكن هناك قدرات تنفيذ،وهو وضع مماثل لما نحن فيه اليوم (مع فارق الحجم)، استقدم سموه خبيرًا اقتصاديًّا ألمانيًا، كان مساعدًا لرئيس الوزراء الألماني أديناور، وهو أب الاقتصاد الألماني بعد الحرب العالميَّة الثانية. وبعد أن درس الخبير الألماني الوضع الاقتصادي السعودي، نقل للأمير مساعد وجهة نظره، وقد أعجب بها سموه، وطلب من الخبير الألماني مصاحبته إلى جلالة الملك فيصل، -رحمه الله-، وطلب الأمير من الخبير أن ينقل إلى جلالته ما قاله له. فقال الألماني: إنني عرفت أن أهم أكلة لديكم هي كبسة الأرز، وفهمت بأنّه لطبخ هذه الأكلة، لا يمكنك رفع درجة الحرارة في مرحلة إنضاج الأرز،بل يجب خفض الحرارة إلى أقل درجة، وإلا فستحترق الكبسة!! والاقتصاد يشبه الكبسة، من حيث حاجته إلى أقل قدر من الحرارة!!