قال لي صديقي: هل لي أن أدعوك إلى فنجان قهوة.
قلت : لا شكرا يا صديقي ... يكفيني فنجانك بالأمس فقد أذهب النوم عن مقلتي و أشغلني بالتفكير (كيف يمكن أن أصبح صاحب معالي أو سعادة).
قال صديقي: حقيقة لقد حجزت طاولتك المفضلة و طلبت لك (بنانا بريد طازج لذيذ و مقمر مع فنجان اللاتيه الساخن) سال لعابي فوافقت لضعفي لمقاومة هذا العرض المغري.
بدأ صاحبنا يلخص لي حديث الأمس ... فأنكرته و برأت نفسي من ذلك ... و أنه إذا ثبت ذلك فإنني قلته تحت تأثير التهديد و التخدير.
و بدأ صاحبي بتلطيف الجو ... ناولني فنجان اللاتيه و قطعة بنانا بريد ... ثم سألني:
ما قصة العباءات التي يلبسها أصحاب المعالي و السعادة عندكم؟
قلت: هااااا.. أنت تقصد البشوت (بشت معاليه)
قال: نعم نعم ... (بشت معاليه) هذا ما أقصده؟
قلت: يا صديقي العزيز، إن البشوت عند أصحاب المعالي و السعادة لا تقل أهمية عن ثوب معاليه و شماغ معاليه أو غترته و عقاله و حذائه ... فكلها مكملة لبعضها البعض في إظهار شخصيته المتلونة في كل مناسبة بحسب صفتها و أهميتها، و يلعب (بشت معاليه) بحسب نوعه أو لونه دورا مهما جوهريا في إيصال رسالة محددة إلى شخصية محددة في موقف و زمان محددين معتمدا في ذلك على نظريات علم النفس لتحليل الشخصية المعنية بالرسالة و الطريقة المناسبة لإيصالها إليه. و قد يمثل (بشت معاليه) بحسب لونه أو نوعه رسالة مشفرة لا يمكن فك رموزها إلا من قبل (صاحب معالي أو سعادة آخر).
صديقي (فاغراً فاه !!): لم أفهم شيئاً مما تقول ... أرجوك حاول أن يكون حديثك في مستوى شخص لا يفرق بين البشت و العباءة ... أو المعالي و السعادة ... أرجوك وضح أكثر؟
قلت: حسناً لعلي أعطيك تحليلاً قد يكون بعيداً نوعاً ما و لكنه قد يلامس بعض الواقع ليقرب الصورة أكثر:
في حياة صاحب المعالي أو السعادة ، البشوت بألوانها و أنواعها لا تفارقه أبداَ أينما حل أو ارتحل ... و تصرف له على ذلك مخصصات مالية تحت بنود متعددة مثل بدل اجتماعات و رسميات و زيارات و بدل سمعة و .... إلخ !!!.
فتجد معاليه أو سعادته يملك بشتاً في مكتبه الخاص ، و ثان عند سكرتيره الخاص ، و ثالث عند سائقه الخاص ، و رابع في سيارته الخاصة ، و خامس في سيارته الرسمية ، و سادس في غرفة الاجتماعات المصغرة ، و سابع في غرفة الاجتماعات الكبيرة ،و العشرات موزعة على فلله و استراحاته و..... إلخ. و كل بشت له دلالة معينة و لكنها تجتمع في شيء واحد، فمثلاً:
- - عندما يُلقي معاليه القسم أمام ولاة الأمر فإن معاليه يرتدي البشت السكري أو الأبيض الملكي ذو الحياكة الخاصة و المطرز بخيوط الفضة النقية ليعكس نقاء سريرته و صفاء قلبه و طهارته و إخلاصه و تشرفه لخدمة الوطن و المواطن.
- - عندما يعقد معاليه إجتماعاً خاصاً لتوقيع عقود أو مشاريع فإن معاليه يرتدي بشتاً ملكياً ذو لون غامق مطرزاً بخيوط ذهبية براقه مشيراً بذلك إلى حجم نصيبه من الكعكة.
- - بينما إذا كان معاليه مدعواً لوليمة فإنه يلبس بشتاً يساعده على تغطية حجم كرشه أو إظهاره بحجم أصغر و هناك بشوت خاصة لهذه المهمة حتى لا يصاب بالحسد أو العين.
- - و يحرص معاليه عند اجتماعه بغيره من أصحاب المعالي و السعادة على ارتداء بشوت بألوان لها دلالات معينة مثل الرضا أو الزعل أو طلب الدعم و المساندة و غيرها مما الدلالات التي يصعب تفسيرها ما لم تعش حياتهم.
- - و إذا تفرغ معاليه للقاء مع بعض المواطنين فإنه يحرص على ارتداء بشت عادي جداً ليوصل لهم رسالة (ترى أنا مثلكم .. و حالي حالكم ... مع شح الأراضي ما أملك إلا أرض مساحتها 400 م2 و عمارتي موقفة من سنتين ما حصلت حديد .. حتى أني طلبت من المهندس يصمم بيتي بدون مجالس لأني ما أقدر أستقبل ضيوف .. أما الرز ما هو لازم يكون وجبة رئيسية ترى ما يدخل بيتي إلا مرة وحدة بالشهر كيس أبو 10 كم .. و الموية مقطوعة من يومين و فواتير الكهرباء كسرت ظهورنا بعد رفض الديوان تسدد فواتيرنا .. و لا تسألوني عن القرض مقدم طلب قرض من 10 سنين و دوري باقي متأخر ..."مسكين معاليه .. غلبان سعادته" .... لكن ثقوا أن كل ذلك لن يمنعني من خدمة الوطن و المواطن فأنا أبي لكم الخير .. و كل طلباتكم راح تعرض على المجلس ليتم تشكيل لجنة تحدد مهام اللجان المنبثقة من قرارات المجلس و التي كلها قرارات خير تصب في صالح المواطن و أبشروا .... و لكن حنا ما نبي المواطنين يتجمعوا مثل النسوان لأن النسوان مكانهم البيت ... و إذا تبي المرأة تشتغل لازم ترفق وصيتها بملفها العلاقي الأخضر و تصبر هي و أهلها على اللي راح يجيهم من ورى هذه الوظايف ... الخ.)
و للإجابة على سؤالك بالأمس عن (القسم الذي يلقيه معاليه) و علاقة البشت بذلك، فيمكن القول بأن:
(الشيء الوحيد الذي تجتمع فيه كل أنواع البشوت ابتداءاً من بشت القسم إلى بشت لقاء المواطن أن معاليه أو سعادته بعد القسم أو الوعود التي يوزعها للمواطنين ... يلتفت عن يساره رافعاً بشته و منكساً رأسه إلى داخله ... ينفث ثلاثاً مستعيذاً بالله من الشيطان الرجيم ، مستغفراً تائباً من قسمه و وعوده ... ليعود إلى بيته ينام قرير العين ...و الوطن ينتظر تحقيق القسم و المواطن المسكين ينتظر تحقيق الوعود التي انتهت بالاستغفار و التوبة في حينها).
أصحاب المعالي و السعادة
امنحوا قلبي وساده
امنحوا ولدي أمان
امنحوا الشيخ مكانا كريما
يلفظ فيه أنفاسه
اتركوه .. قرير العين ينام
للوطن .. أفنى عمره و شبابه
يرتجي ردا جميلا بسلام
يرتجي رزقا كريما لعياله
يرتجى بيتا يحميه من اللئام
يفضل الموت...على أن يطرق بابه
محسن .. ببقايا طعام
تدمع العين من حوله زوجه و عياله
باكيا حالهم من بعد الختام
دمعة الشيخ لها حقا مهابة
تحرق القلب كآلام السهام ....
دعاني صديقي لفنجان قهوة، فأجبت دعوته على شرط أن تكون من الكوفي شوب الذي أعشقه (قلوريا جينس كوفي) بالإضافة إلى طلبي المفضل مع القهوة (بنانا بريد "فطيرة موز" مقمرة مع الزبدة).
وافق صديقي على شرطي، و أثناء تناولنا للقهوة دار بيني و بينه هذا الحوار (المصدع !) :
سألني صديقي: إنني دائما أسمع كلمات طنانة رنانة في خطاباتكم و نشراتكم ... حتى أنها أصابت أذني بالطنين المزمن من كثرة سماعها... فماذا تقصدون بتلك الكلمات؟
قلت: أي كلمات تقصد؟ فكل خطاباتنا و نشراتنا رنانة، طنانة، حنانة، منانة .....
قال: لا..لا.. إنني أقصد تلك الكلمات التي تتردد دائما في مقدمة و وسط و خاتمة كل فقرة من فقرات تلك الخطابات و النشرات ... و التي كأنها تشير إلى أناس هم مصدر (سعادتكم و علو شأنكم؟)
قلت (ضاحكا): الآن فهمتك ... إنك تقصد ... أصحاب المعالي ... أصحاب السعادة ...
قال: نعم نعم .. هذه الكلمات التي أقصدها تحديدا ... ماذا تقصدون بذلك؟ و إلى من تشيرون بها؟
قلت: سؤالك سهل ممتنع ... و يصعب الإجابة عليه !
صديقي: و لماذا الخوف ممن يسعى لإعلاء شأنكم ... و إسعادكم ... و هكذا أنتم تصفونهم بأصحاب المعالي و السعادة.
قلت: له ليس الأمر كما قلت ... بل هو العكس تماما ... نحن نسعى لإسعادهم و إعلاء شأنهم و إرضائهم و تسخير اللسان و القلم في مدحهم و الثناء عليهم و ... و ...
صديقي: حسبك .. حسبك .. و لماذا كل هذا؟
قلت: باختصار ... حتى تنال شيئا من حقوقك.
صديقي: أو هكذا تنال الحقوق عندكم؟
قلت: هذا فقط لتنال أبسط الحقوق ...مثل التكرم بالنظر في موضوعك أو التوقيع على معاملتك.
صديقي (متعجبا): إذا الحقوق عندكم مصنفة ... فكيف بالحقوق الأخرى ... المتوسطة منها و الكبيرة ...
قلت: يا صديقي حتى مواعيد المستشفيات و التحويل على المراكز الصحية الكبيرة و الحصول على حجوزات طيران و حقوق الضمان الاجتماعي و الحصول على رخصة بناء أو إيصال الكهرباء و الهاتف إلى منزلك و غيرها من الحقوق الأساسية ... ما بالك بالحقوق الأخرى مثل الحصول على وظيفة أو ترقية أو قرض سكني أو منحة أرض... الخ.
و كل على قدره ... فعليك أن تقدم قربانا بين يدي طلبك من الحفاوة و الكرم و السعي لنيل رضا المسئول بحجم الحق الذي تريده ... و هذا قد لا يضمن نيل كل حقوقك المشروعة، فقد تكون بحاجة إلى تقديم أضعاف ذلك لمن يستطيع تسهيل الأمر لك فقط ....... و إن كنت تملك شيئا من أسباب الرضا و مصادر السعادة (قطعة أرض أو مزرعة أو مشروع استثماري ....الخ)، أو كنت ذا وجاهة و نفوذ ... يكفيك حينها اتصال واحد، ليأتيك الرد مباشرة ... أبشر طال عمرك ... تستاهل طال عمرك ... و هذا أقل شيء نقدمه لكم طال عمرك ... (تم طال عمرك).
صديقي: لقد شوقتني حقا للتعرف على (أصحاب المعالي و السعادة) ... أرجوك أخبرني عنهم أكثر؟ كيف وصلوا الى ما هم فيه؟ ما هي مؤهلاتهم ؟ كيف يستطيعون الحصول على كل ذلك؟
قلت: يا صديقي إن ما أخبرتك به و ما سوف أخبرك لا ينطبق عليهم جميعاً ... بل ينطبق على بعضهم ... فمنهم من يسعى حقا لأداء واجباته و مسؤولياته تجاه الوطن و المواطن بكل أمانة و إخلاص، و أخشى أن يكون قلة.
صديقي: حسنا حسنا... دعك من أولئك المخلصين عندنا منهم كثير... حدثني عن أولئك الذين تسعون أنتم لإسعادهم و إرضائهم فالحديث عنهم جد شائق هاهاهاها ...
امممم ، حسنا يا صديقي: و لكن عدني بألا تفشي كلامي و لا تكشف سري (لويكيليكس).
صديقي: أعدك ... أعدك هاهاهاها
قلت: سأحدثك عن بعضهم ... مؤهلاتهم لا تقاس بعلمهم و شهاداتهم و خبراتهم بقدر ما تقاس بمواصفات خاصة، حتى أن بعضهم يتم تفصيلهم تفصيلا خاصا (ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب) ... ظاهره حب الوطن و التغني بولائهم و إخلاصهم و حرصهم على سعادة و رفاهية المواطن ... و باطنه عذاب بُني أساسه على المناطقية و القبلية و طول الأعناق و رخص الذمم و الاستعداد للتخلي عن المبادئ (ببساطة رشف فنجان قهوة) لأجل تبادل المصالح الخاصة و الشرهات المحترمة لتأمين المستقبل.
صديقي: و كيف يصلون إلى هذه المناصب المهمة؟
قلت: إن لهم أجندة خاصة ... يحاولون جاهدين من خلالها الوصول إلى صانعي القرار ... فلا تكاد تجد مؤسسة أو وزارة أو جهة حكومية إلا و لهم فيها يد تزكيهم و تقربهم و تذكرهم و تثني على ولائهم و حبهم و إخلاصهم و تفانيهم في خدمة الوطن و المواطن و لسان حالهم (قال اذكرني عند ربك) ... فيثق فيهم صانعوا القرار ليولوهم هذه المناصب.
صديقي: حسنا . فهل يتم تغييرهم بشكل دوري؟
قلت: لا يا صديقي ... دورتهم لا تقل عن أربع سنوات عجاف ... أولها: دراسة لأسباب إخفاقات من سبقهم، ثانيها: لمعالجة هذه الأسباب؟، ثالثها: طرح المقترحات و التوصيات التي تم التوصل إليها؟، رابعها: وضع خطة خمسية أو عشرية لتنفيذ هذه التوصيات.... و بذلك يضمن أحدهم بالحسبة البسيطة تسع سنوات على الأقل في الخدمة تنتهي بإخفاقات معدة مسبقاً ... لمن تم إعداده من بعدهم.
صديقي: و كيف إن فشل أحدهم في إدارته و مسؤولياته؟ ألا تتم إقالته؟
قلت (بزفرة مواطن) : يمدد له لإكمال خطته الخمسية أو العشرية و تأمين حياته المستقبلية.
صديقي: حتى و إن كان فاسدا يضر بالوطن و المواطن.
قلت: حينها قد يتم إعفاؤه من منصبه (بناء على طلبه) و تعيينه عضواً أو مستشاراً في إحدى مؤسسات الدولة ، و قد يكتفى بإعفائه من منصبه مع الحفاوة و التكريم.
صديقي: ألا تتم محاسبته و معاقبته؟
قلت: لا لا ... لم و لن يحاسب مسئول في بلادنا؟
صديقي (متعجباً): لماذا لا و قد تبين فساده؟
قلت: مجتمعنا تحكمه أجندة قبلية و مناطقية و مصالح مشتركة تستلزم السكوت وغض الطرف و الستر على أمثال هؤلاء لأنه بفضحهم قد تسيل الدماء حتى الركب ... و أرجوك ... أرجوك ... لا تسألني كيف؟ و لماذا؟
صديقي (مستجيبا لرجائي): حسنا ... حسنا ... و لكن هل لك أن تقنعني كيف لمثل من كانت هذه طباعهم وسجاياهم أن يلبسوا عباءات أصحاب المعالي و السعادة و يقفوا أمام ولاة الأمر مقسمين أيمانا مغلظة على السمع و الطاعة و خدمة الوطن و المواطن فيما يرضي الله ... ثم ينكثون عهدهم و ميثاقهم؟