اليوم ضاعت هيبته وتقلّصت صلاحياته بعد أن زاد دلال الطلاب
عريف
الفصل قديماً.. «قوة الجسم» و «اللكاعة» أهم من «الشطارة»!
عريف الفصل يجد احتراماً من قبل زملائه خشية الدخول في قائمة المشاغبين
إعداد: منصور العسّاف
ما زالت ذاكرة شباب وكهول هذا الزمان الذين قضوا في مدارسهم أجمل أيام الطفولة وربيع العمر يتذكرون ما اصطلح عليه الأساتذة والطلاب في ذلك الزمان ب "عريف الفصل"، حيث كان لزمة من لزمات التنظيم الإداري في المدرسة، وشرطاً أساساً في ضبط وتنظيم حركة الطلاب داخل فصولهم، بل إن "وزارة التربية والتعليم" -المعارف آنذاك- كانت قد أعدت لعُرفاء الفصول برامج ومحاضر خاصة بهم حتى أصبح
عريف الفصل في بعض المدارس كأنه "أستاذ بديل" للأستاذ؛ لما له من احترام وتقدير، بل لقد كان اسم العريف في طليعة أسماء الطلبة المشاركين في النشاطات المدرسية والزيارات الخارجية، لاسيما إذا اجتمع للطالب مع كونه
عريف الفصل انتسابه لطلاب النظام الذين هم يمثلون عيون الإدارة المدرسية على زملائهم الطلاب.
في أغلب الأحوال لم يكن اختيار
عريف الفصل عائداً إلى كونه طالباً مثالياً أو مجتهداً في دروسه، وعليه فكثيرا ما كان العريف متأخرا دراسياً ولم يكن ذلك لشيء؛ سوى أن الأساتذة المدرسين كانوا يحرصون على اختيار من يرونه أهلاً لإسكات الطلاب والحد من حالة الفوضى التي يلجأ إليها التلاميذ بعد خروج المعلم من الحصة أو أثناء غيابه، وعليه كان لزاماً أن يكون
عريف الفصل أكبر الطلاب جسماً، وأجبرهم عظماً، بل ان له عينين تجيدان التحديق، وأذنين تسمعان الهمس والدبيب، ناهيك عن يقظته وحدسه وتوجسه، بل وسرعة استجابته لأي مؤثر أو صوت، إلى جانب أهمية أن يكون العريف نبيهاً فطناً مجرباً وعارفاً بأحوال وعادات الطلاب وأصنافهم وهو ما يسمونه "الملكّع" وهو الحاذق ذو الدراية ببواطن الأمور، في حين أن بعض الأساتذة لا يعير هذه الصفات كثيرا من الاهتمام، ويقصر اختياره لعريف
الفصل على ذلك الطالب الذي منحه الله بسطةً في الجسم، وقلة في العقل والحلم، أو ذلك الطالب المُجد المثابر الذي يقبع بالصفوف الأولى، وربما كان لصغر سنه دورٌ في عدم تدوينه أسماء "اللعّابين" والزعم أمام أستاذه أن الجميع كانوا محل ثقة، وأن
الفصل في غيابه كان هادئاً.
جدول المشاغبين
كان العريف في حال استلامه مهمة متابعة ومراقبة الطلاب يلجأ إلى أسلوب لم تسلم منه أي سبورة في ذاك الزمان، حيث يرسم جدولاً يقسمه إلى خانتين الأولى للأرقام المتسلسلة، والثانية يسجل فيها أسماء الطلاب "اللعّابين" أو "المشاغبين"، وكان هذا الجدول شبحاً جاثماً على قلوب الطلاب، وهو في جميع أحواله محل سخط الكثير منهم؛ لاسيما إن غابت العدالة والأمانة في تعبئة الأسماء، علماً أن الساخطين المطالبين بشطب ثقافة "الجدول" هم أولئك الطلاب الأكثر حركة ومشاغبة وتربصاً بخروج المدرس، وهم من جرت العادة أن يقبعوا في الصفوف الخلفية للفصل، ينامون في الحصص الأولى، ويتقافزون مع سماع دوي جرس الفسحة، لا تُقر لهم قدم، ولا يهدأ لهم حديث، يتسابقون نحو المقصف للظفر بساندوتش "الكبدة" التي أعدها "عبده" منذ الصباح الباكر، وهم يرددون "فسحة يا فسحة واللي نايم يصحه" لحين العودة إلى
الفصل مرة أخرى، لكنها هذه المرة تأتي بتثاقل وسحب الأقدام، ليعود الدور الأهم والأبرز للعريف لمراقبة
الفصل وضبطه قبل وصول المدرس، مع ما يلاقيه خلالها هذا العريف من مقاومة ليست بالسهلة من "شلة" الصفوف الخلفية والذين هم في معظم الأحوال "شلة" العريف نفسه، لكنها عنتريات الطفولة، أو قل إن شئت الدقة مراهقة الشباب و"فشخرة" ربيع العمر.
رسائل وعتاب
ما أن تبدأ الدروس والشرح إلا وتجد طلاب الصفوف الخلفية وربما من بينهم "عريف الفصل" سكوتا، كأن على رأسهم الطير فليس من عاداتهم التفاعل مع المدرس والمشاركة في موضوع الدرس، وعليه فقد تجدهم إما نياما، أو يتراسلون فيما بينهم، فيكتبون لعريف
الفصل يذكرونه أن الأيام دوارة وأن مكانه ومكانته مُعرّضة للزوال، وعليه طالما تلقى هذا العريف المنكوب أبياتاً من أحد طلاب الصفوف الخلفية يقول فيها:
زمانك لوصفا لك يوم
فلا تحسب صفا لك دوم
وعينك لا هتنت بالنوم
ترى الأيام غداره
وقد لا تقتصر هذه الرسائل على العريف إذ قد يحظى الأستاذ "رائد الفصل" بمثل هذا، بل ما يزال أحدهم يذكر ما خطه بيده في دفتر "الكشكول" من قصيدة المعلم إبراهيم طوقان، وهو يرد على أمير الشعراء أحمد شوقي ليرسلها هذا الطالب لغرفة المدرسين الذين ما زال بعضهم يرددها قائلاً :
شوقي يقول وما درى بمصيبتي
قم للمعلم وفه التبجيلا
اقعد فديتك هل يكون مبجلاً
من كان للنشء الصغار خليلا
ويكاد يفلقني الأمير بقوله
كاد المعلم أن يكون رسولا
لو جرّب التعليم شوقي ساعة
لقضى الحياة شقاوة وخمولا
حسب المعلم غمَّة وكآبة
مرأى الدفاتر بكرة وأصيلا
أما العريف فيتركون له بيتاً من الشعر يقول:
إن الشجاعة في القلوب كثيرة
ووجدت شجعان العقول قليلا
كان العريف حينها محط أنظار زملائه يُخطب ودّه، ويبحث الجميع عن رضاه، والتقرب إليه، وكسب صداقته، ولا بأس -في عُرف بعضهم- أن يشري مودته بما لذّ وطاب من "ساندويتشات عبده" أو حتى إعطائه دفتر الرياضيات لحل الواجب الذي لم يكن العريف يعلم به أصلاً.
عريفة سرية
في مدارس البنات قد لا يختلف الوضع كثيراً، إلاّ أن صرامة وقوة شخصية "العريفة" تبدو أكبر، بل وأكثر صلاحيات منها في مدارس الطلاب؛ لكونها أكثر قرباً وانفتاحاً مع إدارة المدرسة، وعليه كانت العريفة من منطلق نفوذها تُخبّئ أسماء المشاغبات بورقة صغيرة تضعها في كف والقلم في الكف الأخرى وتكتب مع مرور الوقت أسماء المشاغبات، ولم يكن هذا التصرف إلاّ محاولة من العريفة لبسط سيطرتها وإثبات شخصيتها، لاسيما وهي بين الفينة والأخرى تتلقى أسئلة من "جواهر" و"نوال" و" نورة" مفادها "أسألك بالله هل اسمي موجود؟".
مثل هذه الأسئلة كانت تشبع غرور عريفة الفصل التي لم تسلم هي أيضاً من العريفة السرية أو عريفة النظام التي هي بطبيعة الحال أقرب إلى قلب رائدة
الفصل وإدارة المدرسة، وتجد قبولاً من مُدرساتها والإدارة على حد سواء، إذ إنها محل ثقة الجميع، ولها ما ليس لغيرها من حضوة وقبول، وكل ما تقدمه هو محل تقدير واحترام المديرة ومساعداتها، ولا يغيض هذه العريفة السرية إلاّ "أم سعد" -فراشة المدرسة- التي تتعامل مع جميع الطالبات على أنهنّ بناتها، وكثيراً ما كانت تردد في طابور الصباح "الله وأكبر من بيزوج كل هالبنيات"! ولم تكن العريفة السرية تجد أي تميز في المعاملة من "أم سعد" التي تعامل الجميع بحس الأمومة، ولذا كان لزاماً عليها أن تغض الطرف عنها حين تُحضّر للطالبات "زمزمية الشاي" الخاصة بمديرة المدرسة، ولأن أسلوب عريفة
الفصل في السيطرة على الطالبات عائدٌ إلى شخصيتها، فقد تختلف الأساليب من عريفة إلى أخرى، إذ قد تلجأ بعض العريفات إلى كتابة أسماء المشاغبات في السبورة، ومَن تواصل اللعب والعبث سوف تجد أمام اسمها كلمة "مكرر" أو علامة "×"؛ بل قد تلجأ العريفة المتسامحة إلى مسح أسماء الطالبات اللاتي التزمن الهدوء بعد كتابة أسمائهن، وإن كانت العريفة خفيفة الظل ومقبولة لدى زميلاتها، فقد تُسوّغ لها صلاحياتها أن تجد مع زميلاتها مساحة للوقت كي يرددن سوياً "مسيكم بالخير يالعمال العمالية" أو "أحمر وأصفر بنفسجي أبلا منيرة حبيبتي"! وإن كانت العريفة قد حصلت على امتياز العرافة؛ بجرأتها وقيادتها للفصل، فلا عجب إن تميزت بميزة عن قريناتها من الطالبات، فلا لا يلبسن "الشبرات" ولا "الأبة"، ولا يصحبن أمهاتهن في احتفال الأمهات، بل تجد معظم نقاشهن عن المُدرسات أو المسلسلات التلفزيونية، وربما كان ثمة حديث آخر عن منافسات الهلال والنصر.
أساليب التقرب إليه لا تخلو من «حل واجباته» وتسليفه «ألواناً مائية» و«ساندويتش كبدة».. وشلة الصف الأخير ثابتة في جدول المشاغبين
وكما كان الطلاب يجاملون زميلهم
عريف الفصل ويهدونه الأقلام والألوان السائلة وينظمون فيه القصائد والأشعار، كانت الطالبات يطلُبن "أتوجراف" العريفة؛ ليطرزن لها عبارات الود والمجاملة ويختمن بقول إحداهن:
كتبت لكِ يا زين الملاح
على ورق يطير مع الرياح
ولو أني أطير لطرت شوقاًوكيف
يطير مقصوص الجناح؟
كانت مثل هذه العبارات والأشعار تشبع غرور عريفة
الفصل التي استطاعت أن تربط جسور الود بينها وبين عريفة النظافة وهي المسؤولة عن تدوين اسم كل طالبة لا تلتزم بأنظمة الحفاظ على نظافة المدرسة، ولا يقتصر دورها على
الفصل فقط، بل لها أحقية تدوين من يخالف تعاليم النظافة سواءً في الممرات أو في فناء المدرسة أو حتى في المقصف.
سيد القوم
وفي اللسان تقول العرب "عريف القوم سيدهم العارف بسياساتهم"، ويقال في اللغة: العريف هو النقيب وهو دون الرئيس، ومن الطريف أنه باللغة يتساوى مع النقيب ولكنه في الشأن العسكري يفرق عنه بمراحل، وقال عليه الصلاة والسلام: "العرافة حق، ولابد للناس من
عريف والعرفاء في النار"، قال ابن الأثير: "العرفاء: جمع
عريف وهو القيّم بأمور القبيلة أو الجماعة من الناس يلي أمورهم ويتعرف الأمير أحوالهم، وقوله: العرافة حق، أي فيه مصلحة للناس ورفق في أمورهم وأحوالهم، والعرفاء في النار؛ تحذير من التعرض للرياسة لما في ذلك من الفتنة فإنه إذا لم يقم بحقه أثم واستحق العقوبة، وقال علقمة بن عبده:
بل كل حي وإن عزوا وإن كرموا
عريفهم بأثافي الشر مرجوم
ويذكر المسعودي وهو من علماء ومؤرخي القرن الثالث والرابع الهجري أن من بين الرتب العسكرية رتبة
عريف ونقيب ثم مقدم، ولذا تذكر كتب التاريخ أن الحجاج بن يوسف ومن بعده أحمد بن طولون وقرقوش "خادم صلاح الدين الأيوبي" كانوا في بداية حياتهم العسكرية عُرفاء أو برتب عسكرية تنفيذية، كما كان لأبي عامر الحاجب المنصور -الذي دانت له بلاد الأندلس وشبه الجزيرة الأيبيرية- قصة مع بداياته العسكرية حتى أصبح الرجل الأول في بلاده أواخر القرن الرابع الهجري، كما كان لكتابات الجاحظ وسخريته بمعلم الصبيان، مروراً بما نسميه الآن
عريف الفصل أثر في أدبنا العربي لا يقل سخرية عن تجاوزات أبو نواس حين زيارته لكتاتيب بغداد التي ملأت الدنيا حينها وأشعلت الناس.
الجيل القادم ينتظر «كاميرات مراقبة» تضبط تصرفاتهم بدون عريف
حضارة بادت
في زمننا هذا، لحق
عريف الفصل ما لحق بالمدرس، فلم تصبح هيبته كما هي في السابق على الرغم من بقاء مهامه وواجباته على ما هي عليه، إلاّ أن صلاحياته قد تقلصت، أو أن زوال هيبته جعله يضطر إلى أن يخرج مع المدرسين أثناء "الطلعة"، أو أن يساير زملاءه وفق ما يستطيع، ناهيك عن الوهن الذي أصاب بعض الأنظمة الإدارية في المدارس؛ مما أفقد إدارتها صرامة القرار الذي يستمد منه "عريف الفصل" قوته ويعرف من خلاله سقف صلاحياته، ناهيك عن ما يسميه البعض "دلال" المدارس الأهلية لطلابها، وقد يجود الزمان مستقبلاً بكاميرات مراقبة للطلاب لاسيما في المدارس المعروفة بالصرامة والانضباط، وهي على أي حال دليل على أن
عريف الفصل الذي كان يحظى بسمعة ومهابة تسبق اسمه، لم يعد الآن على ما كان عليه في سابق أيامه وسالف زمانه، ما حدا به اليوم أن يرثي سالف مجده وربيع أيامه وهو يردداً قول ابن زيدون:
يا جنة الخلد أبدلنا بسدرتها
والكوثر العذب زقوماً وعسلينا
هيبة العريف كانت تخفف من عنتريات "عرابجة" الصف الأخير
تقلص هيبة "العريف" حالياً أتاح الفرصة للكسالى بأخذ "غفوة" إلى حين حضور المعلم
مهمة ضبط الطلاب باتت ملقاة على عاتق المعلم دون وجود عريف يهابه زملاؤه
تطور التعليم تقنياً جعل طلاب جيل اليوم يغفلون عن المشاغبات بدون وجود عريف
إعارة الألوان المائية للعريف من أساليب التقرب إليه آنذاك لكي يمسح الاسم من قائمة المشاغبين
مما تصفحت محاولا التذكيـــــــــــر بما كان !