د. سلمان بن فهد العودة السبت 02 صفر 1434 الموافق 02 فبراير
الأرض، الشمس، الهواء، الجدران، الناس، الذكريات، الأحلام..كلها تنتمي إلى هذا المكان.
صبي درج هنا لا يعرف جغرافيات أخرى وتهجَّى أولى حروف لثغته الأولى على هذه الأرض وتعرَّف على الحياة والدنيا والدين بواسطة جيرانه ومساكنيه.
صدحت حنجرته الطريَّة بنشيد وطني كان يظنه يعبر عنه
واحتفل مثل لِدَاته بما كان يسميه (اليوم الوطني)
في المتوسطة كان يسمع الهمس: (أجنبي)، ويتلفَّت يبحث عن المقصود فلا يرى إلا ظله!
أبوه (حسن) يغادر المكان بعد أربعين عاماً ليعود إلى (تشاد).
الترحيل كان في انتظاره بسبب مشاجرة عابرة مع (مواطن) دون حكم أو قضاء..
{وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} (9) سورة الرحمن
(كل الناس سواسية أمام القانون، ولهم حق بالتمتع بحماية متكافئة دون أي تفرقة، كما أن لهم الحق في حماية متساوية ضد أي تمييز يخل بهذا الإعلان، وضد أي تحريض على تمييز كهذا).
أصبح الأب يدفع سنوياً فاتورة ثقيلة:
رسم الإقامة السنوي =650 ريال
كرت العمل= 2500 ريال
التأمين الصحي= 800 ريال
رسوم التعقيب =200 ريال
(4150) تدفع عن الشخص الواحد دون المرافقين من أبناء وبنات ووالدين!
كانوا ثمانية لا يحلمون بحقوق البشر الأساسية: المواطنة، التعليم، الصحة، حرية العمل، التملك، حرية التنقل..
الرسم فقط مقابل حق الإقامة، والعمل تحت سلطة (الكفيل).
شاكر المراهق (18 سنة)؛ يجب نقل كفالته حسب النظام، وإذا لم يتوفر كفيل.. يجب استخدام طرق ملتوية ودفع مبلغ (5000 ريال) للتجديد على مهنة طالب، آخر كان يدفع (19ألف ريال) سنوياً للرسوم والأتعاب.
الإقامة هي الشريان الذي يمدّه برمق الحياة، وإذا انتهت فهو عرضة للقبض عليه في أي نقطة تفتيش وترحيله فوراً، وليس بإمكانه إنجاز عمل، ولا التعاطي مع مؤسسة حكومية أو خاصة، ولا استخراج شريحة اتصال باسمه.. سيخرج أطفاله من المدرسة لحين تجديد الإقامة ولو كانوا في اختبارات نهائية، وستُقفل جميع حساباته البنكية، وتُجمَّد الأرصدة إن وجدت!
ستتوقف الجمعيات الخيرية عن تقديم المساعدة العينية
أسرة تتكون من عشرة أفراد أغلبهم بنات يدفعون سنوياً أكثر من (15000)ريال رسوم إقامات، مما اضطرهن للعمل ولو خادمات أو مد اليد للسؤال وامتهان الكرامة.
نظام الكفيل يجعل المقيم المولود هنا تحت رحمة إنسان آخر.. وليس باستطاعته القيام بأي تعاملات إلا بإذنه كالتعامل مع الهيئات والمؤسسات العامة، وحتى الأحوال الشخصية؛ كفتح حساب في البنك، وأداء فريضة الحج، واستخراج رخصة قيادة، وسفره، وتنقلاته، وزواجه، وحجز جوازه.
نقل الكفالة قد يُكلِّف6000ريال، والقرارات الصادرة من وزارة العمل جعلت أصحاب المؤسسات محاصرين بـ(السعودة) تارة، وبـ(نطاقات) تارة.. فصاروا يطلبون نقل الكفالات، وأين هو ذلك الكفيل؟ إنه الآخر داخل في النطاق الأحمر؛ الذي لم يحقق السعودة، فلا يجدد له السجل، ويمنع تجديد إقامات جميع مكفوليه.
(س) اضطر إلى نقل كفالته في سنة واحدة ثلاث مرات، ودفع ما يزيد عن 30.000 ريال.
كفيل بلا ضمير وقع مكفوله على أربع وعشرين ورقة باستلام رواتبها، وحين اعترض.. قال: (وَقِّع وإلا ترحيل)!
في أي ساعة يتصل عليه ليلاً أو نهاراً ويطلب 500، أو400ريال، لحاجة طارئة لك أن تتوقع ما هي.
أعطاه ورقة تنازل أخيراً بـ(5000ريال)؛ هرباً من النفي القسري.. أعرف كفلاء كثيرين في غاية العدل واللطف، ولكن هذا ليس دائماً، ففي غياب الرقابة تستشري الأنانية والأثرة.
الترحيل!
هو اقتلاع شجرة غضَّة استنشقت عبير الحياة أول مرة في هذا الحقل، هو شيء يشبه عقوبة الإعدام!
1- كل من عمل عند غير كفيله.
2-أو (كَدَّ) بسيارته الخاصة.
3-أو ضُبط وإقامته منتهية حتى لو كانت في التجديد، ما لم يحمل خطاباً من الجوازات.
4-أو وقع في مشاجرة حتى لو كانت عادية بين المراهقين.
5- أو وجدوا عليه سابقة جنائية عند أدائه للبصمة حتى ولو كانت السابقة قبل عشرات السنين.
6-وأي قضية لمقيم تصل إلى مركز الشرطة ويُسجَّل فيها محضر.
شباب في سن الزهور لم تشتد سواعدهم ذهبوا في رحلة الشتات والضياع إلى وطن لا يعرفون منه إلا اسمه يتخطَّفهم المجهول، وآباء وأمهات واهنو العظام، مشتعلو الرؤوس شيباً؛ يذرفون الدموع، ويكتمون اللوعة والحنين؛ لا حيلة لهم ولا سبيل.
(ع) عمره 48 عاماً، من مواليد جدة، وكل إخوانه متجنِّسون، صودرت هويته بسبب مشادة كلامية مع رجل المرور، ووُضع في الترحيل، ولم تُجد الوساطات ولا الرشاوي نفعاً، فتجرَّع السم، وطلَّق زوجته حتى لا ترحل معه هي وأولادها.. ثم أُبعد !
من الجميل أن المولود المقيم يحصل على التعليم الأساسي المجاني: (ابتدائي- متوسط- ثانوي) بشرط وجود مقاعد فارغة.
ولو اقتضى ذلك أن يسجل في مدارس بعيدة جداً أو في أطراف المدينة.
أما الجامعة فالباب مغلق تماماً حتى لأصحاب المعدلات المرتفعة أو الكاملة والمواهب والطاقات.
مؤلم أن يشعر شاب مبدع ممتلئ بالأمل والطموح أن مستقبله يغتال فجأة، وأن عليه أن يبدأ رحلة الكفاح؛ بحثاً عن لقمة العيش بعيداً عن أحلامه.
قليلون جداً يملكون إكمال دراستهم في الخارج على حسابهم الخاص.
وأكثر منهم مَنْ يفيقون من الصدمة على وقع يد تأخذهم إلى عالم الانحراف والمخدرات والجريمة..
والأكثرون يفيقون من أحلامهم الوردية وطموحاتهم التي عاشت معهم؛ ليشمروا عن سواعد غضة، ويدخلوا في ميادين وأسواق العمل؛ مخالفين أنظمة العمل والعمال.
من الحق أن فئة نادرة تقبل في ظروف خاصة وفي تخصصات محددة (شرعية، إدارية، تقنية).
الرعاية الصحية
ثمَّ شيوخ لا يشملهم التأمين الطبي، وهم أحوج الناس للرعاية الصحية، ترفض المستشفيات استقبالهم؛ لأنهم (أجانب) وفق التعبير الشائع!
يصاب أحدهم بجلطة دماغية؛ التأخر في علاجها يسبب مضاعفات قد تؤدي للوفاة، وفي المستشفيات الخاصة عليه أن يدفع فواتير لا يستطيع عمره كله أن يقوم بها.
غالب الأطفال والمراهقين لا يشملهم التأمين؛ لأن المؤسسة تؤمِّن للعامل فقط، وحين يُصاب أحد الأطفال بكسرٍ أو يحتاج إلى عملية فإن العلاج يكلفه ثمناً باهظاً.
الشباب والفتيات الذين لم يجدوا أعمالاً ووظائف، ولازالوا مرافقين لآبائهم ليسوا بأحسن حالا من غيرهم.
كثيرون أقعدتهم العلل في بيوتهم ينتظرون الموت، فهل تعجز آذاننا عن سماع أنينهم المكتوم؟!
امرأة حامل رفض المستشفى استقبالها؛ لأنها لا تحمل الجنسية، وأخرى ولدت عند باب المستشفى.
(تابع غير مصرح له بالعمل)! كيف لمثل هذا أن يعيش أو يُعالج؟
إنها مأساة ثلاثة ملايين إنسان فقط في منطقة مكة المكرمة، يتركز توزيعهم الجغرافي في أحياء: (غليل، الهنداوية، بترومين، الثعالبة، المصفاة، الكرنتينة، السبيل، الجامعة، مدائن، الفهد، النزلتين، كيلو (14،11،10،7،3،2)، البلد، الكندرة، الصحيفة، العمارية).
وبالنسبة لمكة في أحياء: (الشراشف، الزهور، الزمردة، كدي، النكاسة، الكعكية، الرصيفة القديمة، ريع بخش، وادي جليل).
داخل كل أسرة أسرار وقصص أغرب من الخيال ومعاناة صامتة ومادة خصبة تصلح أن تصاغ في رواية أو حكاية.
ليس من العدل أن يساوى وافد جاء بالأمس بقصد العمل المؤقت وهو ينوي الرجوع إلى بلاده بعد انتهاء العقد وبين آخر وُلِدَ هو وأبوه على ثرى هذه الأرض الطيبة المعطاء، أو جاءت أسرته قبل عشرات السنين واستقرت هنا.
إذا ذكروا أوطانَهُم ذكَّرتهمُ عُهودَ الصبا فيها فحنّوا لذلكا
كانت الجنسية تُمنح للمواليد عند بلوغ الثامنة عشرة قبل أ ن يُلغى هذا النظام.
وفي بلاد العالم المتقدم؛ كالولايات المتحدة، وكندا، والسويد.. حصل الملايين من مهاجري العالم الإسلامي وخاصة دوله المنكوبة؛ كفلسطين، والعراق، واليمن على الجنسية بسهولة.
دعونا نناشد الغيورين على مستقبل هذا الوطن وكرامة أبنائه أن يضعوا خطة رشيدة تمنح أبناء الأسر المقيمة كرتاً ملوناً؛ يحفظ إنسانيتهم ويميزهم عن الطارئين العابرين، ويسمح لهم بالعمل والعلاج والتعليم، ويؤهل من أثبت جدارته إلى مستوى آخر بمزيد من الميزات والحوافز والفرص؛ التي تنتهي أخيراً بالحصول على حقوق المواطنة كاملة.
لن يُلام أحد إذا سعى في سدِّ الأبواب أمام القادمين الجدد لاعتبارات كثيرة، ولكن أولئك الذين وُلدوا هنا، وشبَّت عظامهم، وتشرَّبوا الثقافة ذاتها، وتكلَّموا اللهجة، وشربوا الماء، وشاركوا الزاد.. فإن القيم الإسلامية الرفيعة، والأخلاق الأصيلة، ورجاء الثواب من الله الكريم الوهَّاب.. توجب علينا أن نهتف جميعاً بهذه المناشدة.
أدعو رجال الأعمال القادرين المحتسبين إلى التحالف فيما بينهم والتواصل مع الجهات التنفيذية لاعتماد خطة إستراتيجية متكاملة قائمة على زرع الثقة بهذه الفئة المبخوسة حقها، وإعادة إعمار أحيائها المتهالكة حياً فحياً لتكون إسكانات ضخمة غنية بالمرافق وتحفظ لأصحاب الحقوق حقوقهم.. نعم إنها أحلام ولكن ليس ذلك بمحال إذا صدقت النيات وتضافرت الجهود.
كيف يوصم بـ"الأجنبي" ابن الحارة القديم؛ الذي لا يعرف غير شوارعها وأزقتها، ولم يسافر طيلة عمره إلى بلد آخر؟!
كيف تعتقد أنه ينافسك في رزقك، وهو يكدّ ويكدح ويخدم.. والله هو الرزَّاق، وخير القوت ما كثرت عليه الأيدي؟
كيف يؤخذ البريء بجريرة المذنب؟ فيتم استعراض أسماء محدودة ارتكبت جرماً والجريمة ليس لها لون ولا جنس.
القرارات الأحادية -إن كانت كذلك!- الصادرة من وزارة العمل بمضاعفة الرسوم إلى أكثر من ألفي ريال غريبة ومفاجئة.. قد يُضاعف إلى خمسين بالمائة أو حتى مائة بالمائة، أما ألفين بالمائة! فهو محيِّر ويحتاج إلى تسبيب -على الأقل- ليعرف الناس لماذا هذا؟
لعلِّي أتجرَّأ وأقول: إن من الخطأ الاستراتيجي بحق الأجيال أن تظل هذه المسألة الشائكة؛ التي تمس الملايين بدون حلول جادة وناجزة ومنصفة، وأن يكون الحل الأوحد الفعَّال هو تكدس الآلاف في مكاتب الترحيل ليذهبوا إلى بلاد ليست بلادهم.. فبلادهم الحقيقية هي التي وُلدوا ونشئوا وتعلَّموا فيها، وشعروا بالولاء والانتماء إليها.
وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ يقول: « ابْغُونِى ضُعَفَاءَكُمْ فَإِنَّمَا تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ ». رواه البخاري.