تعددت و كثرت وسائل الإعلام في السنوات الأخيرة، متخذة في ذلك، صوراً إعلامية متعددة، من قنوات فضائية، وصحف ورقية، ومحطات إذاعية، ومواقع إخبارية، ومنتديات انترنت، وصحف الكترونية، ومدونات، وغير ذلك، من الوسائل الأخرى، المتاحة في وقتنا الحاضر.
والإعلام الالكتروني، وخصوصاً إعلام منتدى شمس الحب، يعتبر أحد أبرز هذه الوسائل الإعلامية، ومن أعظمها انتشاراً، وأكثرها جذباً للقراء.
ولم يكن كذلك، لولا تميزه في المهنية الإعلامية، والأسلوب الراقي للطرح الإعلامي، فضلاً عن تمتعه بالمصداقية العالية، التي تستهدف العلم والحقيقة، وهي ميزة لم تجعل منه منتدىً إلكترونياًً فحسب، بل جعلت منه أيضاً، وسيلة تثقيف وتنوير، وأداة توجيه وإرشاد، وأداة تحكيم بين الحق والباطل، والصحيح من الخطأ.
وهذا ما أكسبه ثقة شريحة كبيرة من الرواد، من مطلعين، ومثقفين، وأكاديميين، ولكوني واحداً من هذا الجمع الغفير، فقد كان لزاماً علي أن أبدي ملاحظاتي، في حال لزم الأمر، خصوصاً عند القضايا التي تثير حفيظة المتعقل، حفاظاً على استمرارية تألق هذا الصرح، ليمضي قدماً وبثبات، نحو مصاف، كوكبة الوسائل الإعلامية التنويرية المتألقة.
أوجه هذه الملاحظة إلى الأخ : محمود عبد الغني الصباغ، هداه الله، إعلامي جريدة الوطن السعودية، بخصوص الموضوع الذي نشره في مدونته، وطرحه خلال منبركم الإعلامي، تحت عنوان " أسرار تجارة الجواري والعبيد في الحجاز قبل وأثناء الحكم السعودي "
فقد قدم الكاتب الكثير والكثير من المعلومات حول الموضوع، منها ما هو صحيح، وجلها عكس ذلك، وطرحها بطريقة ملتوية، لا تستهدف الحقيقة، وتجعل من الصعوبة على القارئ البسيط، تميز الغث من السمين، والصحيح من الخطأ، ليوقعه في النهاية، في اعتقادات دينية خطيرة، وأخطاء فكرية جسيمه، لا يقبلها دين، ولا يقرها عقل ناضج .
ولكن الباحث الحقوقي، أو المختص، أو المثقف المطلع، سرعان ما يكتشف ذلك وبسهولة، واكتشافه سعي الصباغ، إلى إلصاق العبودية بذوي البشرة السوداء والسمراء، مستدلاً في ذلك، ببعض الأخبار المحورة، أو الناقصة، مكرراً نعته لذوي البشرة السمراء بالعبيد، ويظهر ذلك من خلال الفصول الموجزة التي استشهد بها، والروايات التي لا تكفي لإيضاح جميع الحقائق .
وقد تكون المسألة بسيطة، إن علم أن الهدف من ذلك، يستهدف العلم والحقيقة، لإيضاح بعض حقائق الأمور الغائبة، وكشف جوانبها المظلمة، لتنوير فكر المتلقي .
لكن أن تستغل حرية إتاحة الكتابة، بالشكل الخطأ، ليتجاوز قلم الكاتب، قواعد الدين والشرع، بكتابة ما يحلوا له، حول قضية، لها بعدها الديني والاجتماعي والتاريخي، ثم يلوي أعناق الحقائق، ويئول فيها ما يشاء، بغية خلط الحقائق، وتسميم الفكر البشري، فلن يكون الأمر بسيط وهنا لي وقفه.
عزيزي الصباغ، أتمنى أن يستوعب فكرك هذه الحقيقة الشرعية، التي قد تكون مره عليك، وهي أنك أنت المعني بقضية الرق والاستعباد هنا .
لأنك عبارة عن مولى، سليل الموالي العجم ( العبيد العتقاء من أهل اللسان الأعجمي )، من الأجناس التركية، والرومية، والهندية، والشركسية، ومن إليهم، من أجناس بلاد المشرق الإسلامي، الذين وفدوا على عموم الجزيرة العربية، وعلى إقليم الحجاز على وجه الخصوص، مع أسيادهم المسلمين الفاتحين، بعد وقوعهم في الأسر، في الزمن الذي وافق حركة الفتوحات الإسلامية، وزمن توسع جغرافية الحدود الإسلامية، التي امتدت لتشمل حدود تلك الأصقاع.
ليستوطنوا ويعيشوا بعد ذلك، معظم مدن إقليم الحجاز، وتحديداً في كلاً من ( مكة المكرمة، المدينة المنورة، جدة، الطائف، ينبع ).
كما يمكن اعتبار ذلك الحدث التاريخي، أحد أبرز العوامل الرئيسية، التي جعلت المرتبطين بأولئك الموالي، من أفراد وجماعات، والمقيمين في بلاد المشرق، من إلقاء أبصارهم، وتسليطها نحو منطقة الحجاز، التي مثلت لهم الغاية العظمى، ثم باتوا يحلمون بتخطي وطوي بعد كل تلك المسافات، للاستمتاع بما فيها، من عدل وأمن وأمان، وللانتقال من الفقر إلى الغنى، ومن شظف المجوسية، إلى نعيم الإسلام.
وهذا ما يفسر السبب، في تشكل طبقة كبيرة من الجماعات البشرية، باتت لا تعرف أصولها على وجه الدقة، وهم الفئة التي أطلق عليها مؤخراً، عبارات ذات دلالات انتقاصية، كـ " طرش البحر أو بقايا الحجاج "، وغيرها من المسميات المرفوضة، والغير مقبولة إطلاقاً، من منظور الدين الإسلامي، لما فيها من تجريح، وانتقاص، بل هم أخوة لنا في الدين، وسيبقون كذلك، ما بقي الإسلام، قال تعالى ( ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما ) ( 1 )
هذا من الناحية الشرعية، وعليك بالرجوع إلى أهل العلم، وطلاب العلم الشرعي الثقات، إن أردت التثبت أكثر من هذه الحقيقة.
أما بخصوص جميع ما قدمته خلال طرحك، وبكل أسف، لا توجد على الإطلاق، أي صحة شرعية تجيز أو تثبت ما تزعم بأنه رق واستعباد مشروع، وذلك على الفئة التي اعتدي على حريتها وحقوقها، للفترة التي حددتها في دراستك، والتي أشرت إليها بأنها خلال فترة " قبل وأثناء الحكم السعودي"
لأن مجمل ذلك، يعد مخالفات شرعية، يأباها الإسلام، ارتكبت بدافع الجهل من كلا الطرفين، سواء من جانب من تقمصوا دور السادة، أو ممن تقمصوا دور العبيد والجواري .
وذلك لأن المصادر التي بنيت عليها تلك الممارسة، كانت مصادر غير مشروعة، سلكت عن طريق الخطف، أو السرقة، أو الإكراه، أو بدافع الفقر، أو نحو ذلك من المصادر التي يأباها الإسلام.
أما المصدر المشروع، الذي حدده الدين الإسلامي، لغاية وحكمة ربانية، ( سيتم توضيحها وتبيانها لاحقاً )، فهو مصدر واحد فقط، يسلك عن طريق الأسر، من خلال حرب دينية مشروعة، ضد الكفار المحاربين، من مجوس ويهود ونصارى وغيرهم، وهو ذات المصدر، الذي سلكه المسلمون الفاتحون، عندما جلب أسلافك، من بلاد المشرق الإسلامي، إلى أرض الحجاز.
كما يجب عليك أن تعلم، أن الإسلام يقف بنصوصه حيال من ذكرته من مخالفات، موقفاً حاسماً حازما، وذلك من خلال نصوص ربانية، صريحة الدلالة، ظاهرة المعاني.
فقد جاء في الحديث القدسي : قول الله تعالى ( ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته، وقد ذكر منهم : ورجل باع حراً فأكل ثمنه ) ( 2 )
وقد جاءت أيضاً، توضيحات وأقوال العلماء، ممن عاصروا زمن تلك المخالفات، متفقه مع عموم النصوص القرآنية، والنبوية الصحيحة وإطلاقها، وقد نصت بعدم مشروعية ظاهرة الرق، التي مورست في الفترة التي حددتها.
وقد أجاب الشيخ ابن جبرين رحمه الله ، إجابة شرعية بخصوص أولئك، ممن تم استغلالهم على أنهم أرقاء ، وهم في الأصل أحرار ، ومن بعض ما ذكره الشيخ قوله : " في القرن الماضي، في أول القرن الرابع عشر وفي آخر القرن الثالث عشر كان هناك أناس يسرقون بعض الأطفال، ويبيعونهم على أنهم مماليك، يأتون إلى بعض البلاد التي فيها شيء من الجوع ونحوه، كالسودان أو الحبشة، وتلك البلاد، ثم يستدعون بعض الأولاد الذي في سن العاشرة والحادية عشر، ويختطفونه يطعمونه ويكسونه، ويقولون: اذهب معنا ونحن نطعمك ونعطيك ونحو ذلك، يذهب معهم ويعتقد أنهم سوف يحسنون إليه، فيأتون إلى هذه البلاد ويبيعونه على أنه مملوك ".
وقد ذكر قولاً له في نص آخر : " وكثر بيع هؤلاء الذين ليسوا مماليك؛ وإنما هم أحرار، فلما كثر بيعهم وقَلَّ أو انقطع الجهاد من عشرات السنين رأت الحكومة في هذه البلاد أن أكثر هؤلاء المماليك ملكيتهم ليست صحيحة، وأنهم مظلومون، وأنهم قد بِيعُوا وهم أحرار، فرأتْ الحكومة تحريرهم في سنة ست وثمانين، وصدر الأمر بتحرير كل الرقاب الموجودين في المملكة، وتعويض أهاليهم عنهم، ولو كان عند أحدهم عشرة أو عشرون إذ دفعت الحكومة قيمهم وتحرروا، ولم يبقَ في هذه البلاد أرقاء، ولكن إذا حصل قتال مع الكفار، ثم حصل الاستيلاء على سبيهم فإن الرق يعود، وهذا هو الأصل؛ لأن أصله الاستيلاء على سبي المشركين؛ أطفالهم ونسائهم ونحو ذلك"،انتهى كلامه ( 3 ).
فأي جهل أنت فيه !! لتجزم وتؤكد صحة ما ذكرته في طرحك الممجوج، والذي أسميته " بالدراسة العلمية " ، ومنحته جهلاً رخصة "البحث العلمي" ، معتبراً ما نضمه نسج خيالك، بمثابة الحقائق المسكوت عنها كما تدعي، والتي وثقتها ورتبتها جيداً، بهدف ترتيب الماضي بحسب ما تقول؟!
وأي تعاليم شرعية تستقي منها، وتملي عليك ذلك الباطل وتزينه لك، لتلبس بطريقه مختلقه، رداء الرق والاستعباد، فئة من البشر، أثبت الدين والشرع حريتهم ؟!
وأي ثقافةٍ دينية ضحلة تحملها!!.. وأي قلة أدراك، وقلة معرفة، بخطورة ما تكتب عنه، لقضية تتميز بالأهمية البالغة، لتعدد أطرها: الدينية، والتاريخية، والاجتماعية، التي لا تقبل الفصل، والتجزئة، و الانتقائية، الأمر الذي يصعب بل ويتعذر معه، تحديد علاقة الفرد بالجماعة، إلا بدراسة صحيحة شاملة لجميع تلك الأطر.
وقد كان حري بك، أن تبين للقارئ وبكل صدق وأمانة، المعنى الصحيح لمفهوم الرق والاستعباد، موضحاً شروطه الصحيحة، وأحكامه، فضلاً عن توضيح الحكمة الربانية، من نزع الحرية البشرية.
كما كان من الواجب عليك، أن تبين كيف دعا الإسلام إلى المساواة بين المؤمنين، بهدف إلغاء التفاوت، في المجتمع المسلم، وكيف سعى إلى تحقيق العدالة على المستويات كافة، وكيف قرب أسلافك من الموالي ( العبيد العتقاء )، وكيف ساواهم بغيرهم من العرب وسواهم، من أجل القضاء على مرض العنصرية القائم على أساس مخلفات الجاهلية النتنة، التي تريد إحيائها، لمجرد افتخارك بعرقك الأبيض.
لينعموا بعد ذلك، بنعمة العتق والولاء، ونعمة إخاء واحترام عموم المسلمين، لينتشروا في أرض الحجاز، منصهرين في نسيج المجتمع، منهمكين في خدمة أسيادهم
ونظراً لوقوع بعض حالات العتق السائبة، التي قد تختفي معالم روابط الولاء فيها بمرور الزمن، فقد يلجأ بعض أولئك الموالي، من الانتساب إلى مواطنهم الأصلية.
فعلى سبيل المثال، اللقب كشغري، نسبةً إلى بلاد كشغر، في بلاد المشرق الإسلامي، واللقب سندي، نسبه إلى بلاد السند، واللقب سمرقندي نسبه إلى سمرقند، في بلاد المشرق، واللقب تركستاني، نسبته إلى تركستان، في بلاد المشرق، واللقب كابلي، نسبة إلى كابل، في بلاد المشرق، وهكذا.
والجدير ذكره، أن بعضاً من أولئك الموالي، قد أنصرف للعمل في المجالات الخدمية الأخرى، الأفضل حالاً، وقد كان منها، على سبيل المثال: التجارية، والتعليمية، والقضائية
وما يأسف، أن كثيراً من المسلمين، لم يحسنوا استيعاب تلك المفاهيم، ولا إدراك حكمة النص الرباني، لتلك الغايات الربانية.
ولذلك فقد اعتدى بعضاً منهم، على حرية الأحرار، رجالاً، ونساء، وأطفال، وسلبوها منهم دون حق، باسم الدين، لأنهم سلكوا ذات المصادر الغير مشروعة، التي سلكها غيرهم، من أتباع الأمم الأخرى، والتي كانت عن طريق : الخطف، أو الإكراه، أو الغدر، أو الفقر، أو نحو ذلك، من المصادر المحرمة في الإسلام، والتي يعد فاعلها آثم عند الله .
كما نظر البعض منهم، إلى أن أحد غايات الإسلام، من دعوته للجهاد في سبيل الله، هو الاستيلاء المباشر على نساء العدو، ثم اتخاذهن، سرارٍ، وجوارٍ، وإماء، لوطئهن، والاستمتاع، والتمتع المطلق بهن .
وأملي أن يدرك الإعلامي: محمود صباغ هذه الجزئية جيداً، ويفهمها فهماً صحيحاً دقيقا، حتى لا يوقع نفسه في الحرج مستقبلاً، لا سمح الله.
كما آمل منه، أن لا يسمح لنفسه، بأن يكون مطيه صحفية تمتطى، من قبل بعض الكتاب، الذين لهم اتجاهاً وجودياً، أو فكراً مجوسياً، أو من بعض أولئك، ممن لهم مفهوم ضال منحرف، والذين يسعون بكتاباتهم، إلى امتهان، وتسميم الفكر البشري.
وفي الختام، نسأل الله سبحانه، أن نكون قد وفقنا فيما قدمنا، والحمد لله رب العالمين.
التعليقات
( 1 ) سورة الأحزاب، آية رقم 5 .
( 2 ) رواه البخاري ( رقم 2227 ).
( 3 ) كتاب العتق ، كتاب شرح أخصر المختصرات ، للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين رحمه الله.
( 4 ) سورة محمد ، آية 4 .
( 5 ) سورة الأنفال، آية رقم 70 .
( 6 ) التقيين فيالأصل تزين المرأة للزفاف، ثم أطلقعلى تزين الجارية وإصلاحها وتعليمها الغناء.
( 7 ) الألوسي : بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب ج 2 ص 4
( 8 )كتاب القيان للجاحظ، من مجموعة رسائل الجاحظج٢- ص١٧١ - ١٧٥