إذا كان خامنئي يريد لقائي فليتفضل عندي في الفندق..!
على غير المتوقع منها، تعاملت إيران مع المشهد المصري الراهن، من دون اكتراث أو بصمت مريب، وبتواطئات لا تخفى على الراصد الحاذق، بطريقة تعطي انطباعا سريعا للمراقب أن اندفاعتها المعلنة والتي اعتبرتها (من الناحية الإعلامية) أمرا راسخا في استراتيجياتها تجاه أحداث المنطقة وعلاقاتها المتوترة على طول الخط مع نظم الاعتدال العربي، على حد وصف الأدبيات السياسية التي راجت لوقت طويل في المنطقة في تصنيف النظم التي ترتبط بإيران بعلاقات متينة على أنها نظم الممانعة، ومن لا يصطف معها على أنها نظم التخاذل أو غير ذلك مما حفل به القاموس السياسي للشرق الأوسط.
ما يحصل في مصر من حراك سياسي قد يعرض استقرار أكبر بلد عربي، ويعرض أمنه القومي لأخطار جدية، وكان يستدعي من القوى السياسية بدلا من الاحتكام إلى الشارع، أن تحتكم إلى الحوار المباشر للخروج بحلول توافقية تخدم استقرار مصر وخروجها من مرحلة انعدام الوزن التي يمر بها المجتمع عادة بعد كل تغيير ثوري يهزه من جذوره.
دخلت العلاقات المصرية الإيرانية بأكثر من مفترق طرق حاد منذ قيام الثورة على نظام حسني مبارك، كانت محطته الأولى التصريحات التي أدلى بها المرشد الإيراني علي خامنئي، ونسب فيها للثورة الإسلامية الإيرانية الفضل بكل ما يشهده الوطن العربي من حراك سياسي وربيع ثوري، وقال حينها إن ما يجري في مصر وتونس هو امتداد للثورة الإسلامية الإيرانية، وكأنه يريد مصادرة تضحياتها ويريد القول إن شعوب المنطقة تفتقر إلى الحكمة أو الشعور بالظلم الواقع عليها، لولا أن إيران هي التي علمتها معنى الكرامة ومقاومة الطغيان، جوبهت هذه التصريحات بردود فعل مصرية غاضبة وقوية، لأن مصر تأبى على نفسها أن تتعلم دروس الدفاع عن الكرامة من بلد آخر معروف بمواقفه العدائية للعرب، ويتربص الفرص لينسب لنفسه كل الظواهر الإيجابية حيثما وقعت، حتى إذا حصلت في بلد يشعر شعبه بعمق الفوارق الفكرية والعقائدية.
بعد ذلك تحدث مسؤولون مصريون في الحراك الشعبي في أوج ثورة الشعب
المصري وخاصة من قياداته المعروفة، وقالوا إن ثورة يناير نتاج لموروث عميق الجذور في تاريخ مصر التي يمتد تاريخها لآلاف السنين، وأعطت للعالم إشعاعها وألق تجربتها الحضارية العميقة، مصر التي كانت نافذة الإسلام وإطلالته على أفريقيا، ليست بحاجة إلى من يعلمها دروسا في العزة والكرامة وفي صواب عقيدتها من عدمه، بل بإمكانها هي أن تعطي الدروس لمتقمصي ثياب الثورية الزائفة وإسلام القرن العشرين، والثورة فيها ذات جذور تمتد لحقبة طويلة وتم التعبير عنها أكثر من مرة، على شكل غليان شعبي وخاصة في مطلع عام 1977 في ما سمي بثورة الخبز والتي ما زالت أحداثها طرية حتى اليوم، كان ذلك قبل نحو عامين من اندلاع الثورة الإيرانية التي أسقطت شاه إيران، ومع ذلك لم يقل أحد من المصريين إن الثورة الإيرانية استنساخ لثورة الفقراء في مصر.
أما المحطة الثانية فقد جاءت بمثابة صدمة لنظام
الولي الفقيه، وذلك أثناء انعقاد قمة عدم الانحياز في طهران أواخر آب / أغسطس الماضي، وحضرها
الرئيس المصري محمد مرسي، فقد طلب مضيفوه الإيرانيون عقد لقاء له مع علي خامنئي مرشد الثورة، فكانت إجابته صدمة حقيقية لهم، عندما قال لهم أهلا ومرحبا بخامنئي ليتفضل وأنا جاهز للقائه والتداول معه في شؤون العلاقات الثنائية، من المعروف أن القدسية المفتعلة التي يمنحها المسؤولون الإيرانيون للولي الفقيه، تجعل منه نصف إله وأكثر من نبي، وعلى كل من يذهب لإيران أن يزوره في مقره، أما هو ومن باب الوجاهة المفترضة بلا استحقاق فلا يخرج من هذا المقر أبدا، وبلع الإيرانيون هذا الموقف على مضض واعتبروه إهانة وألغوا فكرة اللقاء.
أما المحطة الثالثة فكانت حينما طلبوا من
مرسي اللقاء بمحمود أحمدي نجاد، فقال لهم سألتقيه في قاعة المؤتمر وليس غير ذلك وطائرتي جاهزة في المطار، وهذا ما حصل، وفاجأهم بخطابه الذي حرفوه في الترجمة الفورية التي بثت عبر القناة الرسمية الإيرانية في سابقة غير معهودة في البروتوكول الرسمي لزيارات كبار المسؤولين للدول الأخرى، وكانت أخر هذه المحطات حينما طلب الإيرانيون من
مرسي لقاء نوري المالكي رئيس مجلس الوزراء العراقي، فاعترض على هذه الفكرة بقوة وقال لن ألتقي بقاتل الشعب العراقي، وحينما قال نجاد إن العراق ديمقراطي وأن المالكي جاء للحكم عن طريق صناديق الاقتراع، قال
مرسي إننا نعرف حقيقة ما يجري لأهلنا في العراق ولن نصافح قاتلا.
بعد هذه المحطات أيقنت إيران أن موجة الإسلام السياسي لن تكون طوع بنانها ولن تستطيع احتكار الخطاب الإسلامي الذي أرادت به تسويق أحلامها الإمبراطورية الفارسية المليئة بأحقاد التاريخ وضغائنه، لقد أيقنت دولة
الولي الفقيه أن الثورة في مصر تشكل خيارا نابعا من الوجدان
المصري ذي الجذور الإسلامية العريقة والعربية الأصيلة، ولا صلة له بما تحاول إيران أن تنسبه لنفسها اعتداء على طبيعة الأشياء.
إن إيران لا يمكن أن تشعر بالسعادة لوجود خيار إسلامي آخر يسحب البساط من تحت أقدامها وينزع آخر ما تبقى لها من أسلحة، ويطرح نفسه على مستوى الشارع كقوة إسلامية حقيقية من دون زيف أو تزييف للشعارات، ويطرح الإسلام بصورته السليمة وجوهره النقي البعيد عن التحريف، وأخطر ما تواجهه إيران هو الضد النوعي المتفوق على تجربتها والقادر على دحض مفترياتها على التاريخ الإسلامي وتحريفاتها التي دخلت في كل زوايا الأصول والفروع في دين الرسالة المحمدية.
بعد أن أيقنت طهران أن الضد النوعي بات يشكل خطرا على احتكارها الزائف للخطاب الإسلامي، راحت تناصبه العداء المكبوت تارة والمجاهر تارة أخرى، وربما يلاحظ المراقب أن إيران لم تبدِ موقفا واحدا متعاطفا مع تجربة الأخوان المسلمين في مصر حتى الآن، على الرغم من أن قوى علمانية تتحرك ضدها بقوة كبيرة لإسقاطها إن استطاعت إلى ذلك سبيلا، ولو أن تجربة إيران ذات تجربة عمق إسلامي، لكان حريا بها الوقوف مع الخيار الإسلامي ضد البديل العلماني في أي مكان في العالم، ولكنها لم تفعل لعقد الماضي ومحاولات الهيمنة ومحاولة احتكار تمثيل الإسلام على مستوى النظام السياسي.
فما هي حقيقة الموقف الإيراني مما يجري في مصر؟ المراقب المحايد بحاجة إلى نقاط توضع فوق الحروف كي لا تستمر المتاجرة بالإسلام إلى الأبد من جانب ألد أعداء الإسلام، وكي لا تبقى البراقع الفضفاضة تستر وجوه الشياطين المعروفين بسيماهم وبلحن القول، في معركة لم يعد ممكنا الصمت فيها إلى مدى أبعد مما حصل وخاصة في زمن ثورة الاتصالات.
إن قابل الأيام قد يكشف في صفحات من الدور الإيراني المخرب في مصر، وقد لا يتأخر حتى نطلع على أسرار مذهلة عن تحالف دولة
الولي الفقيه مع قوى تجاهر بعلمانيتها على نحو لا يقبل التأويل، مما يسقط عن وجه طهران آخر قناع ظلت ترتديه في بورصة الشعارات الإسلامية.
.