لعلي أساءت الأدب معك صديقي العزيز فأمسكت عن محادثتي.. فلك مني كل أسف وتقدير...
فأخبرته ، أني لم أمسك عن الكتابة غضباً منك يا جليسي في وحدتي وفراغي... ولكن أمسكت عن الكتابة لألم أجده في قلبي قد أنّ أنينه ، وأزّ أزيزه ... ثم أحجمت وقد خنقتني العبرة ، فضاق نفسي ، وتغيرت نبرات صوتي ، وبدأت أحس برجفة في عيني... فسكت خوفاً مما هو آت...
ثم ما إن رجعت أنفاسي لمجراها ، وصفت عيني من لمعتها ، وعادت نبرات صوتي لأصلها... انطلقت متحدثاً مع قلمي ، لأشبع فضوله ، ولأوسع عن خاطري وجناني...
فعاد القلم مقاطعاً: أرجوك أن لا تقطع قلبي ، تحدث بكل بساطة ، فنحن مخلوقين قد تجانسنا وعرف كل منا الآخر...
قلت له:
إن خاطري قد فاض ، وأنفاسي قد امتلأت ، وصدري قد سد سيله زبى الأنفاس...
لقد عرفت شخصاً حقبة من الزمن ، وفياً باذلاً معطاء... وها أنا أرى عوامل التعرية قد أثرت فيه ، فانقلب النهار ليلاً ، والنور ظلاماً... لم أعد أرى تلك الابتسامة الصافية الصادقة...
لم أعد أرى الأعين كما كنت أعرفها...
إن العيون على القلوب شواهد *** فبغيضها لك بيّن وحبيبها
وإذا تلاقت العيون تفاوضت *** وتحدثت عما تكن صدورها
ينطقن والأفواه صامتة *** ولا يخفى عليك حبيبها ومريبها
سرت أرى في التعامل قمة في الرسمية ، وفي الحديث تنمق وتكلف ، وفي المحادثة تغير وتملق ، وفي الرسائل جرعات سم تكاد تقتل ...
في بحثه عن مصلحته تجده خير رفيق ، وفي نوادي الصالحين أبعد جليس...
قاطعني قلمي ... هيه هيه
طأطأت الرأس خجلاً من قلمي... كيف لي أن أتحدث بمثل هذا الكلام؟
لكن أيقنت أن حديثي لقلمي إنما هو: حديث الروح للأرواح يسير *** وتدركه القلوب بلا عناء...
فأكملت ما بدأت ...
إن صاحبي قد تغير... وعن الماضي قد تنكر.. ولم آبه بذاك..
أصريت على نفسي... وخالجتها متحدثاً لها : لعل ذلك من طرفي؟ ولما لا؟ فقد أكون من سبب ذلك الشيء...
نسيت آلامي... وحاولت أن أعيش أيامي...
مرت السنون... ومضى أكثر من عقد من الزمن ، ولم يزل صاحبي على جفاء في طبعه تجاهي ، وصد وإعراض عن إتجاهي.. إن أقبلت أدبر ، وإن أنستُ أوحش...
أيقنت أن الجفاء ولا بد أنه حاصل حاصل... وما ظننته قد تيقن...
وتمضي الأيام... ويجلس لي صديق آخر ، قد حوى حبي قلبه ، وقد صدق في مشاعره اتجاهي ، تراه كالمنهج لا تغيره السنون والأعوام..
فاتحته عما وجدته ، وتحدثت معه بكل أريحية ونقاء.. فلم يقاطع أحرفي ، ولم يوقف همساتي...