فرقٌ كبيرٌ بين أنْ ترى الرّأي و أنْ تعتقده , و إذا رأيت الرّأي فقد أدخلته في دائرة معلوماتك , و إذا اعتقدته جرى في دمك , و سرى في مخّ عظامك , و تغلغل في أعماق قلبك .
ذو الرّأي فيلسوفٌ , يقول : " إنّي أرى الرّأي صواباً و قد يكون في الواقع باطلاً , و هذا ما قامتْ الأدلة عليه اليوم و قد تقوم الأدلة على عكسه غداً , و قد أكون مخطئاً فيه و قد أكون مصيباً " . أمّا ذو العقيدة ؛ فجازمٌ بات لا شكّ عنده و لا ظن , عقيدته هي الحقّ لا محالة , هي الحقّ اليوم و هي الحقّ غداً , خرجتْ عن أنْ تكون مجالاً للدليل , و سمتْ عن معترك الشّكوك و الظّنون .
ذو الرّأي فاترٌ أو باردٌ , إن تحقق ما رأى ابتسم ابتسامةً هادئةً رزينةً , و إن لم يتحقق ما رأى فلا بأس , فقد احترز مِن قبل بأنّ رأيه صوابٌ يحتمل الخطأ , و رأي غيره خطأٌ يحتمل الصّواب . و ذو العقيدة حارٌ متحمسٌ لا يهدأ إلا إذا حقق عقيدته , هو حرج الصّدر , لهيف القلب, تتناجى في صدره الهموم , أرّق جفنه و أطال ليلَه تفكيرهُ في عقيدته , كيف يعمل لها , ويدعو إليها , وهو طلقُ المحيّا مُشرقُ الجبين , إذا أدرك غايته , أو قارب بغيّته .
ذو الرّأي سهلٌ أن يحوّل و يتحوّر , هو عبد الدّليل , أو المصلحة تظهرُ في شكل دليل . أمّا ذو العقيدة فخير مَظهرٍ له ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو وضعوا الشّمس في يمني و القمر في شمالي على أنْ أدعَ هذا الذي جئتُ به ما تركته " (1) , وكما يتجلّى في دعاء عمر : " اللّهم إيماناً كإيمان العجائز " (2) .
لقد رووا عن سقراط أنّه قال : " إنّ الفضيلة هي المعرفة " , و ناقشوه في رأيه , و أبانوا خطأه , و استدلّوا بأنّ العلم قد يكون في ناحية و العمل في ناحية , و كثيراً ما رأينا أعرف النّاس بمضار الخمر شاربها , و بمضار القمار لاعبه , و لكن لو قال سقراط : " إنّ الفضيلة هي العقيدة " , لم أعرف وجهاً للرّد عليه , فالعقيدة تسـتَتبع العمل على وفقها لا محالة - قد ترى أنّ الكرم فضيلةٌ ثم تبخل , والشّجاعة خيرٌ ثم تجبن , و لكن محالٌ أنْ تؤمن بالشّجاعة أو الكرم , ثم تبخل أو تجبن .
العقيدة حقٌ مشاعٌ بين النّاس على السّواء , تجدها في السّذّج , و في الأوساط , و في الفلاسفة - أمّا الرّأي فليس إلا للخاصّة الذين يعرفون الدّليل و أنواعه , و القياس و أشكاله , و النّاس يسيرون في الحياة بعقيدتهم , أكثر مما يسيرون بآرائهم , و المؤمن يرى بعقيدته ما لا يرى الباحث برأيه , قد مُنح المؤمن من الحواس الباطنة و الذّوق ما قصر عن إدراكه القياس و الدّليل .
لقد ضلّ مَنْ طلب الإيمان بعلم الكلام و حججه و براهينه , فنتيجة ذلك كلّه عواصفٌ في الدّماغ أقصى غايتها أن تُنتجَ رأياً , أمّا الإيمان والعقيدة فموطنها القلب , و وسائلها خيوطٌ بين الأشجار و الأزهار و البحار و الأنهار و بين قلب الإنسان ؛ و مِن أجل هذا كانتْ { أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)} - الغاشية - , أفعل في الإيمان مِن قولهم : " العالم متغيّر و كلّ متغيّر حادث " ؛ فالأوّل عقيدةٌ و الثّاني رأيٌ .
النّاس إنّما يخضعون لذي العقيدة , و ليس ذوو الرّأي إلا ثرثارين , عنوا بظواهر الحجج أكثر مما عنوا بالواقع , لا يزالون يتجادلون في آرائهم حتّى يأتي ذو العقيدة فيكتسحهم .
قد يجود الرّأي , و قد ينفع , و قد يُنير الظّلام , و قد يُظهر الصّواب , و لكن لا قيمة لذلك كّله مالم تدعمه العقيدة , و قلّ أن تُؤتى أمة مِن نقصٍ في رأيها , و لكن أكثر ما تُؤتى مِن ضعف في العقيدة , بل قد تُؤتى مِن قبل كثرة الآراء أكثر مما تُؤتى مِن قلّتها .
الرّأي جثّةٌ هامدةٌ , لا حياة لها مالم تنفخ فيها العقيدة من روحها , و الرّأي كهفٌ مُظلمٌ لا ينير حتى تُلقي عليه العقيدة من أشعّتها , و الرّأي مستنقعٌ راكدٌ يبيض فوقه البعوض , و العقيدة بحرٌ زاخرٌ لا يسمح للهوام الضيعة أن تتولّد على سطحه , و الرّأي سديمٌ يتكون, و العقيدة نجمٌ يتألّق .
ذو الرّأي يخضع للظّالم و القوي , لأنه يرى للظّالم والقوي رأياً كرأيه , و لكن ذا العقيدة يأبى الضّيم و يمقت الظّلم , لأنه يؤمن أنّ ما يعتقده من عدلٍ و إباءٍ هو الحق , و لا حق غيره .
مِن العقيدة ينبثق نورٌ باطنيّ يُضيء جوانب النّفس , و يبعث فيها القوّة و الحياة , يسْتعذِبُ صاحبها العذاب , و يستصغرُ العظائم , و يستخفُّ بالأهوال , و ما المصلحون الصّادقون في كلّ أمّةٍ إلا أصحاب العقائد فيها .
الرّأي يخلق المتاعب , و يضع العقبات , و يصغي لأماني الجسد , و يثير الشّبهات , ويبعث على التّردد , و العقيدة تقتحم الأخطار , و تزلزل الجبال , و تلفت وجه الدّهر , و تغيّر سير التّاريخ , و تنسف الشّك و التّردد , و تبعث الحزم واليقين , و لا تسمح إلا لمراد الرّوح .
ليس ينقص الشّرق لنهوضه رأيٌ , و لكن تنقصه العقيدة , فلو مُنحَ الشّرق عظماءً يعتقيدون ما يقولون لتغيّر وجهه و حالُ حاله , و أصبح شيئاً آخر . و بعد ؛ فهل حرم الإيمان مهبط الإيمان ؟ .