صالح المسلم كعادته كل يوم ودَّع أسرته في الصباح الباكر بعد أن صلى صلاة الفجر مع الجماعة، وعاد إلى منزله ليجد أطفاله في الانتظار.. التمَّت الأسرة على سفرة الإفطار وأحاديث جانبية حانية، والاستعداد ليوم جديد..
حمل حقيبته اليدوية، وغادر المنزل متجهاً إلى مبنى الجوازات لتخليص أموره هناك.. زحمة الطريق والاختناق المروري أخذا من وقته الشيء الكثير.. وحين الوصول ظل أكثر من ثلاثين دقيقة يبحث عن موقف لسيارته.. معاناة يتجرعها كل يوم..!!
في العاشرة غادر بصحبة الأمل والتفاؤل وإيمانه التام بأن لقمة العيش مريرة، وأن الحركة بركة.. يؤمن "غالب" بأن الجلوس في البيت أو التذمر لا يؤكل عيشاً.
في الطريق عمل اتصالاً ليقطع الوقت؛ فالسير واقف، والزحمة شديدة والمركبات تسير وكأنها سلاحف، ولا وجود لمرور ينظم أو يشارك ولو بجزء بسيط في تنظيم عملية السير..
مركبات بعضها فوق بعض.. وانعدام للوعي لدى قائدي المركبات، وتذمر من الغالبية، ولا حلول في الأفق..!!
كان ينوي أن يستثمر وقته بالخروج باكراً لكي يستطيع أن يكمل ثلاثة أعمال أو أربعة على الأقل، لكن الطرق لا تساعده. وصل مبنى المرور في الناصرية عند الثانية عشرة.. ظل هاجس الموقف يؤرقه.. أين يضع سيارته؟.. لف ولف ولف إلى أن أرهقه الدوران.. وصلت الدقيقة إلى الخامسة والثلاثين بعد الثانية عشرة ولم يجد مكاناً لسيارته.
يا لهذه المشاريع من تخبُّطات وسوء تنظيم.
جاء الفرج؛ خرج شخص وأوقف عربته مكانه، وأخذ يجري محتملاً حرارة الشمس ولهيبها ورائحة الدخان المنبعثة من المركبات.. حين ولج إلى المبنى لم يجد أحداً.. منهم من ذهب للصلاة ولم يعد، ومنهم من ذهب إلى المدارس، ومنهم.. ومنهم.. إلخ، وكأن الدوام ينتهي عند الظهيرة..؟؟
يا إلهي.. انتظر طويلاً.. أخذ رقماً.. جاءه الدور عند الثانية، طلب منه الموظف بكل برود أن يستكمل بعض الأوراق.
إحباطات متوالية يتلقاها "غالب" كل يوم، ومع ذلك لا حياة له ولا قوة.. يخضع.. ويقوم بالمشوار نفسه كل يوم.
مراجعات للدوائر الحكومية بحكم عمله.."معقباً" وإيمانه التام بصعوبة العيش.. ولا بد أن يؤمن لقمة عيش حلال لأسرته، ويقيناً منه أن هناك العشرات أمثاله..!!
حين حمل انكساراته وألمه وتعبه وعاد إلى منزله في الرابعة عصراً أخذ شريط اليوم يمر أمامه.. إلى متى..؟ هل من المنطق والمعقول أن تكون معاناتنا دائمة.. من وضع التخطيط لهذه المشاريع؟.. لماذا وزاراتنا - وبخاصة الخدماتية - ينعدم فيها التخطيط السليم؟.. أين يقف المراجع حين يكون أمام المرور أو مكتب العمل أو صندوق التنمية العقاري أو وزارة التجارة أو الصحة أو التعليم أو مراجعة الشرط والجوازات وغيرها؟..
أزمة مؤرقة منذ الأزل.. ولم يضع المسؤولون لها حساباً؛ كونهم لا يعانون الأمرّين، ولا يذوقون ما يذوقه المواطن.
والسؤال الأكبر: كم هي أعمار مباني الوزارات لدينا؟..
من يشاهد مبنى وزارة الصحة وما جاورها ومبنى "الاستقدام" الكارثة يؤمن بأن الموارد المادية لدينا شحيحة جدًّا، وكأننا بلد بدائي جدًّا.. هل تنقصنا موارد مالية..؟؟
هل تنقصنا أراض لنجعل من وزاراتنا ومبانينا الحكومية رائعة في كل شي..؟؟
متى يعي المسؤولون أهمية المواقف وأهمية المواطن..؟
متى يعي هؤلاء المسؤولون ما يعانيه المواطن "الذي تحول من غالب إلى غلبان" من مرارة وانكسارات كل يوم؟؟
متى يدرك القائمون على وضع الخطط أن رفاهية المواطن هي الأساس، وأن هذه المشاريع وهذه الطرق ما وُضعت إلا لأجله؟.. ليتهم يمتطون عرباتهم يوماً ما، ويقومون بدور المواطن "غلبان"؛ ليذوقوا مرارة ما يذوق..!!
في كل مساء يلملم غالب مسكين غلبان آل غلبان ـ وهذا اسمه الرباعي ـ انكساراته وجراحه وألمه ويلتحف كفنه، يودع صبيته.. ويذوق الموت.. ولا يشعر به أحدٌ..
فمن قتل المواطن؟ ومن اغتال الوطن..!!؟؟
المواضيع المتشابهه 
من قتل المواطن "غالب"؟ 
العرض الشجري
