في المقهى في دبي، حيث أجلس في الصباح، لأكتب، التقي أناساً كثراً، يتغير بعضهم، ويتكرر آخرون، تدور بيننا بعض الأحاديث القصيرة التي يحركها الفضول وتمنح الألفة للمكان المشترك. قابلتُ أناساً وسمعتُ أحاديثَ عابرةً تكاد من عفويتها تكون هي الحديث الأصدق في حياة الإنسان، لأنه يظن أنه حين يتحدث مع عابرين فهو كمن يتحدث إلى نفسه، واحدة من الذين التقيتهم كانت سيدة في الـ60 تعكس هيئتها رقياً وتحضراً ظاهرين، سألتني وأنا أبتسم لها: «من أين أنت؟» قلت لها: من السعودية، فشهقت وقالت: «لقد عملت في السعودية في مدينة جدة، فقد درست في إحدى الجامعات هناك، وعملت في أحد المستشفيات، وأنجبتُ ابنيَّ هناك. الناس هناك رائِعون. أكثر ما كان يأسرني في بلادكم الأمن والأمانة.
كان البائع يضع قطعة قماش على بضاعته ويمضي للصلاة، وكنا ننسى فنترك أبواب بيوتنا مفتوحة أحياناً فلا يتعرض لها أحد، وكنتُ أتجول بهيئتي هكذا من دون عباءة ولا خمار فلا يضايقني أحد، كلٌّ يعبِّر عن شخصيته بسلوكه وحسن تأدبه مع الآخرين. مرةً قمتُ بزراعة شجرة أمام منزلي فقلَّدني خمسة من الجيران، فصار شارعنا أشبه بحديقة. من السهل أن تزرع شيئاً جميلاً فيقلِّدك الآخرون»، سألتها: متى كان ذلك؟ فقالت: «كان ذلك عام 1979»، ثم زادت: «لقد كانت تلك الفترة هي أجمل الفترات في حياتي، وفي حياة أبنائي الذين كبروا الآن وتخرجوا في الجامعات، ثم ذهبوا للعمل، لكننا ما زلنا نحتفظ بذكريات طيبة عن تلك الحياة التي عشناها في السعودية».
قلت لها - وأنا سعيدة بما أسمعه -: أنت صادقة، فأهل جدة طيبون وكرماء، إنهم أهل الساحل الكريم. فأضافت: «حتى البدو أيضاً كانوا كذلك، أذكر أننا خرجنا مرةً للتخييم ونفدَ منا الغاز، فمر بنا أحد البدو، وحين عرف حاجتنا غاب ساعة ونصف ساعة، وعاد يحمل معه أنبوبةً ملأى.
لقد استغرق طريقه ساعة ونصف ساعة ذهاباً وساعة ونصف ساعة عودةً. حاولنا أن نقدم له مبلغاً من المال؛ لقاء حسن صنيعه فرفض. قال: «يكفي أنكم راضون»، ثم قالت - وهي تضرب على ركبتها -: «أجمل السنوات التي مرت عليَّ حين كنتُ في بلادكم، يا لكم من أناس رائعين». قلت لها: وأنا أيضاً أعيش لحظات رائعة حين أسمع أحداً يمتدح ناسي وأهلي وبلادي. كنت متأكدة أنها لم تكن تجامل فقد كنا مجرد عابرتين في حديث عابر، وستظل سيدة لطيفة لو أنها اكتفت بالتحية، وليستْ مضطرة إلى أن تتذكر، وتسعد.
قدمتْ لي هذه السيدة نفسها فوجدت أن اسمها رقية، وهي أستاذة في علم النفس، حين سألتها: مِنْ أين هي؟ قالت لي: «من إيران». لقد أعادت لي هذه السيدة ما كان غائباً عني، ليس لعدم معرفتي إياه، لكننا ننساه في زحام السيئ اليومي، والشكوى المستمرة التي تطمح لأن يكون كل شيء أفضل مما هو عليه. لقد اكتشفتْ أننا أناس طيبون وناس «كويسين». في زمن مضى كانت هذه حقيقتنا، كنا قادرين على المحبة... فهل تغيرنا، أم أننا ما زلنا بعدُ أناساً طيبين، حتى ولو علا ضجيج الفزّاعات؟
منقووول