الحمد لله الذي شرف العربية بخير كتبه وآخرها،
و خصها دون باق اللغات بذاك وحق لها..
فكم هي جديرة بحمل الرسالة،
و إزالة الجهالة .
لما بها من كنوز دفينة،
وأسرار ثمينة. فبها ما بها من إعجاز وإيجاز،
وجمال وكمال ،
قل في الوجود نظيره ، و فاح في الأرجاء عبيره .
فأضاءت بأحرفها - حاملة خير الأديان - ما بين المشرقين،
في أقل من ربع قرن.
و جاء البيان مؤكداً : فإذا قرأناه فاتبع قرآنه، ثم إن علينا بيانه.
فأوتي رسول البرية - صلى الله عليه وآله - مجامع الكلم .
فبين ببديع لفظه ، وفصيح منطقه .
وعين لنا كل شاردة و أوضح كل واردة ،
وجعلنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها،
لا يزيغ عنها إلا هالك.
فكان خير من تكلم بالضاد.
وحُفظت اللغة بحفظ الله،
وستبقى رغما عن أنف كل حاقد،
إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
فحمدا لله حمدا ،
وشكرا لله شكرا ..
لم تقتصر أسرار اللغة وجمالها في البلاغة والبديع وضروبه.
بل شملت و عمت جميع أدواته،
و بلغ جمالها في أقل من الجمل و العبارات.
و النكت و الإشارات ،
فتبدّى ذلك الجمال في كلماتها ،
وتجلى في أقل أدواتها.
فكان في أحرفها سر عجيب ، وكنه غريب.
قد تخالفني الرأي وقد توافقني
ولكن لترافقني ها هنا وتصغ لما أقوله فضلا منك لا أمراً مني ،
ثم لك الحكم.
إن شئت أكملت ووافقت ،
وإن شئت انتقدت برفق و فارقت ،
وأعيذك من الثالثة !
إليكم - أحبتي - أزف سراً من أسرار لغتنا الجميلة،
بل سر حرف من أحرفها الجليلة ،
غيض من فيض زاهر ، وقطرة من بحر زاخر .
إنه الحرف التاسع والعشرون ،
والذي أبى لبنات حواء أن يكن معه في الدون.
ولعلكم فطنتم إلى مقصدي ومرادي،
وعرفتم ما أعنيه بتسطير مدادي ..
إنه الحرف الحرف ..
من عجائب اللغة ونفائسها :
التاء المربوطة ، والهاء المنقوطة .
فتأمل في عجيب اسمها ، وتبصر في بديع رسمها.
إن قلت تاء فهي هاء، وإن قلت هاء فهي تاء .
ألم تلق لها بالا، وتسأل نفسك سؤالا.
لم كانت كذلك،
ولم اختصت بكل ذلك !
ألم تبصر كيف ربطت بذلك الرباط الجميل،
والذي زين بنات حواء بذلك الإكليل ،
وصانها برباط العفاف.
فكانت هاءً منقوطة، وزينت نهاية كل أنثى استحقتها تاءً مربوطة .
وأبت أن تكون مفتوحة كتاء التأنيث ،
لأن أختها اقتصرت على الأفعال ،
وسمت تاؤنا باقترانها بالأسماء ،
فعلت عن اختها برتبة ،
فلله درها من تاء . أبت الانفتاح للأهواء.
حتى لا يعترضها كل من هب ودب ،
وآثرت الحجاب و احتوت فرائد الأدب .
فكأنها تشير بكل زهو وفخر ، لبنات الإسلام في كل عصر .
إلى كل محتشمة عفيفة ،
أن اثبتي اثبتي .
وضربت لها أروع مثالٍ بالصوت والصورة ،
بأن الزمي الحجاب، وإياك وملاحقة السراب،
فلك فِيّ أجمل أسوة وأجل قدوة .
لذا فقد أبت في الوصل مع كل متكلم فهيم ، ذي لسان قويم ،
إلا الوجود و البقاء، كالتاء في اللفظ سواء بسواء .
ألم ترها في فاطمة بنت محمد
وعائشة بنت أبي بكر!!
فإن أفردت الاسم لفظا بغير وصل ، قلت : فاطمة .
فثبتت مربوطة بنقطتين رسما ،
وامتنعت مع الناطق الحصيف عن الثبوت لفظاً ،
وعادت إلى أصل الهاء . وتركت زيادة الاحتياط ،
ليقينها بعدم وجود الاختلاط.
فعجباً لها كيف استأثرت بذلك.
وأجبرت الناطقين على ذلك.
وليت شعري كيف أنكر المنكرون ، وضل المبطلون .
فقالوا أن الاختلاط لفظ حادث .
وأمره من جملة الحوادث.
كيف ضلوا وزاغوا فأضلوا وأزاغوا.
وكيف اهتدت تاؤنا وفهمت هاؤنا ..
فليتهم تعلموا من تائنا وفهموا ،
ومن معينها الصافي نهلوا
فاهتدوا وسموا!
وما رضيت تاؤنا أن تكون متأخرة ، إلا خوفا على كل طاهرة ،
من أن يلحقها دنس أو رجس ،
فكانت كالحارس الملازم يحمي منها الظهر ،
و يستجلي لها كل أمر. فكان لها ذلك الفخر ،
لتزهو به مدى الدهر.
ثم تأمل - يا رعاك الله - في تلك النقطتين الظاهرتين الفطنتين،
لا تكل ولا تمل .
عينان يقظتان منتبهتان،
لا تأبى في الوجود عن الهاء انفكاكا ،
حتى وإن وقفت ولم تنطقها تاء ، أوجبت عليك إثباتها،
وحتمت عليك كتابتها.
فقل للمتجاهلين لرسمها، والجاهلين باسمها.
هلا انتبهتم لعظيم قدرها،
واعتنيتم قليلا بأمرها،
فهي من لغتكم وإرثكم ، ودينكم وكتابكم ..
فهلا فرقتم بينها وبين هاء الضمير ،
وبينها وبين تاء التأنيث،
وهلا حفظتم لكل نفس قدرها ..
ولست لأستقصي عجائب تائنا ،
أو أحصى مناقبب هائنا .
فلله در تائنا المربوطة وهائنا المنقوطة ..
وما ذكرته إنما هو غيض من فيض ،
وقليل من كثير .. ولكن حسبك من القلادة ما أحاط بالعنق ،
ومن السوار ما أحاط بالمعصم ،
والله تعالى أعلم وأحكم ..