المواطن المسكين (لا سكنولا وظيفة) صار كاليتيم على موائد اللئام، ثم يأتي من يلوم هذا اليتيم ويقول له: عليك أن تجد الحل بنفسك، مثلًا تزرع والدين أو تستقدم أبًا وأمًا أو تكون لئيمًا مع اللئام أو لصًا من اللصوص، هكذا قدر المواطن المسكين، يتيم القانون، في مجتمع يسير البعض فيه على قاعدة اسرق تسلم، هذا بينما الليبراليون والإسلامويون مستغرقون في لعبة التناوش والتناطح، يسمونها (حراك ثقافي) وهي بالأحرى موات ثقافي اجتماعي، فهم جميعًا دُمى في مسرح العرائس تقوم بدور الإلهاء والتنويع في تمييع قضايا المواطن الساخنة، من غلاء الأسعار في المأكل والملبس والمركب والمسكن، وعدم تساوي الفرص للجميع، في ظل أنظمة مفرّغة العينين أو عين واحدة طافية، تميل هذه الأنظمة حيث يميل الهوى والعاطفة والواسطة، والضحية مواطن مسكين.
من كنا نظنهم حراسًا للعقيدة والدين والفضيلة والمال الحلال، إذا ببعضهم حراس لأرصدة البنوك، وحريصون على مناصب مستشارين في الهيئات واللجان الشرعية للبنوك والمؤسسات المالية، تلك المناصب التي (تبيض ذهبًا) في كل جلسة واستشارة مالية، حتى عُدّ لأكثرهم أكثر من خمسين منصبًا في عدة بنوك، وهذا المنصب أو (منجم الذهب) على حساب ومن حسابات صغار المودعين والعملاء والمقترضين، وماخبر أساليب الصيرفة البنكية والإسلامية، والتي تحدث عنها الكاتب الاقتصادي الأستاذ عبدالله ناصر الفوزان في مقال بعنوان (على رسلكم..فهذا التورّق أشد حرمة من أنشطة البنوك) في جريدة الوطن، إلا مزيد من كشف عدم التورع الفقهي لدى البعض من مشايخ التجارة البنكية، والسلعة هو المواطن المسكين.
«العقيدة التي يهزها مقال يجب أن تقال « قد نقرأ مثل هذه الجُملة، فتقشعر الأبدان، ونشتاط غضبًا، غير أن الغضب هنا مفيد، إذ يسمح لنا -قبل الاندفاع في ردة فعل أو موجة عنف نفسي- إجراء محاكمة منطقية للعقيدة، فإن كانت عقيدتنا راسخة، رسوخ الجبال، وصافية صفاء اليقين، ومصدرها مكين ومتين، فإن إيماننا بها (العقيدة) لاتزلزله مقولات ومقالات ومواقف، ولن تخدشه هرطقات وزندقات، فالإيمان لا نرثه كما نرث المال والعقار، لكننا نرثه بجيناتنا قبل ولادتنا، مثلما نرث لون بشرتنا وطول قامتنا، يصبح الإيمان فينا قدرنا الذي نحيا به ونموت، بمعنى أنه ليس إرثًا عابرًا، أو لحظة قدرية مؤقتة، صبغة الإيمان فينا، ليست محلها العقل والقلب والجوارح فقط، بل أكثر من ذلك، إن محلها أرواحنا، فهل نستغني عن أرواحنا، إذن نستغني عن عقديتنا، وما الشبهات التي تعترضنا في طريق الإيمان، إلا تأكيد لمراجعة حقيقة العقيدة، ليس للتخلي عنها أو التشكيك فيها، بل مداومة تقويتها، وتجريد حسابات النتائج، فمنذ مئات السنين وأكثر، أنقذت العقيدة أتباعها من عبادة القبور والأولياء، فهل أنقذتهم من عبادة المال، وطهرتهم من عبادة الذات، أي عبادة أنفسنا، وكيف نعبد ذواتنا، ذاك حين نزن الإيمان والتدين بمدى تلبيته لحاجتنا، فحين تتخاصم رغباتنا النفعية بموقف إيماني، ماذا نقدم، وكيف يتم تأويل العقيدة لتصبح في صالح الموقف النفعي، وقليل من ينتصر للإيمان ضد منفعته الشخصية، وهذا ليس عطبًا في العقيدة، بقدر ما هو سرعة تفلتها أمام الموقف الدنيوي، وكل صراعات التاريخ في الإسلام بين الأبرار والأخيار، كان موقف الأخيار، إما الإيمان الخالص النقي أو التأويل النفعي، وكثيرًا ما يكون الموقف النفعي هو الغالب وله السيطرة، وذاك حين امتشق أولئك الأبرار السيوف قبالة بعض، وليس هذا قدحًا في إيمان أولئك الاخيار، بل لماذا يقتدر الواقع على دفع الإيمان جانبًا في لحظة دنيوية، لا تساوي في حساب الآخرة شيئًا، وليس لأن عقيدة تلك الزُمَرة الطيبة لم تكن مكينة وراسخة، بقدر ما لمؤمن لا ينسى الله أبدًا، لكنه يفسره بمقتضيات اللحظة، تمر لحظة الفتور هذه برهة ثم يعود الإيمان لمكانه في قيادة الموقف، وهكذا العقيدة المستقوية بالله وليس بالنص والتاريخ والرجال، تصبح الكابح القوي في اضطرام الأزمات اليومية، فالعقيدة الصافية هي كلية الإيمان بالحقائق العلوية والغيبية، وشحنة الإيمان المقاصدي، لكن حين تروم التوسع تسقط في فخ التفاصيل ولأن العقيدة ليست مجرّد انتماء بالجملة، وإنما هي انخراط في التفاصيل.
وفي التفاصيل تسكن الشياطين، كان لابد للإبقاء على الإيمان بعقيدة التوحيد مرهوبة الجناب، البعد عن الخوض في خلافات النص العقدي الذي ملأ تاريخ الفِرق، وأودى بالعقيدة الصافية إلى التناحر الداخلي بين المسلمين، فالعقيدة حين تقبل التعامل مع الحياة بكل انفتاح ومرونة، يصبح الإيمان متحررًا من إكراهات الواقع، أما إذا انطوت على نفسها وأصبحت عقيدة متصلبة ترعى وجود قيم وقواعد متخشبة، عادة ما كانت تنتهي إلى إنتاج نظم (سياسية وفكرية واجتماعية ودينية) مستبدة ومغلقة، ولايحمي العقيدة من الضعف مثل الحرية، حرية التعبير والتفكير والنقد لكن العقيدة لا تحمي المساكين إن لم تكن قانونًا مدنيًا وليست إيمانًا مسكوبًا في النفوس والضمائر، ما نفع عقيدة الفرد حتى لو كانت تقول بالاستواء وليس بالاستلاء في موضوع عرش الرحمن، إن لم تمنع الظالم من الاستلاء على حقوق الناس وتنصف المساكين.