السؤال : ما معني هذا الحديث : (كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به) . هل هذا الحديث يصح مع التوبة أيضا؟ وهل يتعارض مع قول شيخ الإسلام : " فإن تابت هذه البغي وهذا الخَمَّار ، وكانوا فقراء جاز أن يصرف إليهم من هذا المال قدر حاجتهم ، فإن كان يقدر يتجر أو يعمل صنعة كالنسج والغزل ، أعطي ما يكون له رأس مال . وإن اقترضوا منه شيئا ليكتسبوا به ... كان أحسن " انتهى من "مجموع الفتاوى" (29/308)؟
الجواب :
الحمد لله
روى الترمذي (614) وحسنه عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (لَا يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إِلَّا كَانَتْ النَّارُ أَوْلَى بِهِ) وصححه الألباني في "صحيح الترمذي" .
ورواه أحمد (14032) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، ولفظه : (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ ، النَّارُ أَوْلَى بِهِ) وإسناده جيد ، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (2609) .
والسحت هو الحرام الذي لا يحل كسبه ، لأنه يسحت البركة أي يذهبها .
قال القاري في "المرقاة" (9 / 311) :
"السحت : الحرام الشامل للربا والرشوة وغيره .. (فالنار أولى به) أي بلحمه أو بصاحبه" انتهى .
"الأكل إذا كان طيباً كان البدن طيباً ، وسلم من العذاب ، وإذا تغذى البدن على حرام كان البدن آثماً أو نجساً" انتهى .
"شرح عمدة الأحكام" (74/3) .
وهذا الوعيد إنما هو في حق المصر على أكل المال الحرام الذي لم يتب ، لأن التوبة تهدم ما قبلها من الذنوب ، قال الله تعالى : (قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) الزمر/53 .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ) رواه ابن ماجه (4250) ، وحسنه الألباني في سنن ابن ماجه .
فكما أن التوبة تطهّر القلب مما علق به من الأخباث والأدران المعنوية ، فكذلك تطهر البدن ، فلما طاب القلب بالتوبة طاب البدن ؛ لأن البدن تابع له ، وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
والبدن يطيب بالعمل الصالح كما يطيب القلب ، وقد روى الحاكم (1290) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (قال الله تعالى : إذا ابتليت عبدي المؤمن ولم يشكني إلى عواده أطلقته من أساري ، ثم أبدلته لحما خيرا من لحمه ، ودما خيرا من دمه ، ثم يستأنف العمل) . وصححه الألباني في "الصحيحة" (272) .
فمن درج على أكل الحرام ثم تاب توبة نصوحا صادقة ، يعلم الله ذلك من قلبه ، طهر بها قلبه وبدنه ، ولم يضره ما كان من ذنبه .
وكلام شيخ الإسلام ابن تيمية المذكور ليس معارضاً للحديث ، لأن هذا المال الذي كسبه الخمار أو كسبته البغي إنما خبث لكسبه لا لذاته ، ولم يتعلق به حق آدمي ، ولذلك لما تابت البغي وتاب الخمار شُرِعَ أن تُنفق تلك الأموال التي اكتسبوها بالحرام في مصالح المسلمين ، لأن هذا المال ليس خبيثا في ذاته ، إنما حرم وخبث لكسبه من وجه غير مشروع ، بخلاف ما لو تاب الخمار من بيع الخمر وبقي عنده من الخمر شيء ، فإنه يؤمر بسكبها وإتلافها ؛ لأنها محرمة لذاتها .
وكذا لو تابت البغي وعندها من آلات اللهو المحرم : فإنها تكسرها وتتلفها .
فما دام هذا المال ينفق في مصالح المسلمين ، ويتصدق منه على فقرائهم ، جاز أن يُعطى التائب منه باعتبار أنه من جملة فقراء المسلمين الذين يستحقون الأخذ من هذا المال ، لا سيما وإعطاؤه من هذا المال فيه إعانة له على التوبة ، ولا يكون المال حراماً عليه في هذه الحالة ولا خبيثاً .