في اللحظة التي بدأ فيها «الإخوان» الحاكمون في مصر يذوقون علقم السلطة بعدما ذابت في أفواههم حلاوتها وسكاكرها، نرى أن القوى الإخوانية أو التي تدور في فلكها بدول الخليج تكرر نفس الأسلوب الشعبوي الغامض الذي سلكه إخوانهم من قبل في مصر.
كان شعار العداء لنظام مبارك، والتضخيم من قصة حقوق الإنسان، وخلق شعارات جامعة للمعركة مثل محاربة التوريث، وإرجاء الحديث عن البرامج والأجندة الحقيقية للجماعة إلى حين القطاف، بحجة أنه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وأننا كلنا الآن قوى «وطنية»، معارضة، كان هذا الجو الضبابي الصاخب هو الذي مكن «الإخوان» في مصر من تخدير كل القوى المختلفة عنها، بل وتشويه كل من يحذر من الأجندة الخفية لهذه الجماعة، وكان عدم إبرازهم لهذه الأجندة في حينه ليس إلا تكتيكا مرحليا.
الآن، وقد بدأ «الإخوان» في النزول إلى أرض الواقع، اختلفت الأمور، وبدأت لحظة الحقيقة وخفت بريق الشعار السحري، المعتمد على العواطف الدينية، لا، بل وخرج للإخوان من يزايد عليهم في هذا الشعار. وأكثر من هذا يتهم «الإخوان» بأنهم غير أمناء على الوديعة الإسلامية الصافية، أعني التيارات السلفية بكل تشكلاتها، وأيضا بعض الإسلاميين الخارجين من عباءة «الإخوان» بحجة الإصلاح، مثل أبو الفتوح أو أبو العلا ماضي، وغيرهما.
أصبح «الإخوان» وحزبهم حزب الحرية والعدالة مجرد لاعب سياسي صرف، وبدأت حصانة الشعار وشرعية المظلومية تتلاشى، صاروا وجها لوجه مع الواقع.
لماذا نقدم هذا الوصف الآن؟
أولا، هناك من بدأ يستيقظ متأخرا من حلفاء «الإخوان»، تحت مسمى القوى الوطنية، وصاروا في حالة إحباط وذهول من ظهور الشق السياسي الخشن لدى «الإخوان»، وآخرها معركة إقالة النائب العام، الفاشلة، وقبيل خضوع الرئيس مرسي لثورة القضاة، كانت بعض قيادات «الإخوان» مثل البلتاجي والعريان، يهللون لقرار مرسي، وينصحون النائب العام عبد المجيد محمود بسرعة قبول قرار الإقالة وتعيينه سفيرا في الفاتيكان، قبل أن يرى ما لا يسره، ومثلهم الفقيه الدولي للإخوان المسلمين يوسف القرضاوي، ولكن خاب المسعى وفشلت هذه الجولة.
المثير أن «الإخوان»، وبعد كل هذه الصدامات مع حلفاء الثورة ممن كانوا في الميدان، عادوا لاستخدام المفردات الثورية التي يعلمون أنها تثير عاطفة محترفي الثورة الدائمة والخالدة، وشغلوا أسطوانة «الفلول» ضد عبد المجيد، ليتجاوب مع هذه النغمة بعض الثوريين، ولكن ليس كلهم هذه المرة. فشخصية ثورية جدا مثل الصحافية المصرية نوارة نجم، احتارت في تحديد الموقف وتباعدت عن «الإخوان»، وطبعا هي من الأساس معادية «للفلول» لكن الجديد هو الموقف الحاد من «الإخوان» حتى ولو استخدموا شعارات ثورية، ووصل بها الأمر أن تكتب على حسابها في «تويتر» متسائلة: هل ظلمنا السيناريست والكاتب المصري وحيد حامد، المناهض القديم الجديد لـ«الإخوان»؟! ومثلها تكتب بحسرة الناشطة الثورية أسماء محفوظ، عن كيف غابت الروح الملائكية عن ميدان التحرير؟!
ذهبت السكرة وأتت الفكرة، و«الإخوان» في نهاية المطاف ليسوا إلا جماعة سياسية تسعى للسلطة، وتبرر ذلك ثقافيا بشعارات دينية وسياسية ثورية، هذا ما كان يقال منذ خرجت هذه الجماعة للدنيا 1928، ولكن كل مرة كانت توجه لمن يقول هذا الوصف تهمة أنه إما معاد للإسلام كله، أو أنه عميل للنظام! ها قد ذهب النظام في مصر وما زال بعض ممن كان مناهضا لـ«الإخوان»، وليس كلهم، على موقفه وما بدل تبديلا، مثل وحيد حامد، فهل تنفع الآن دعاية العمالة للنظام؟ الغريب أنني رأيت كادرا إخوانيا على قناة «القاهرة والناس» التي تعرض مسلسل الجماعة لوحيد حامد وبعده تعرض حلقات نقاشية بين طرف إخواني وطرف غير إخواني، الطرف الإخواني في كل مرة تعرض فيه الحلقة يتهم حامد بأنه ما زال عميلا لجهاز أمن الدولة، ولم يسأل نفسه أليس رئيس الجمهورية بجلالة قدرها هو من الجماعة؟!
لعبة الشعبية بدأت تذبل، وفاتورة الحكم ضخمة في بلد مثل مصر. لكن، وهذا هو:
الأمر الثاني، الذي دعاني لتقديم هذا الوصف لحالة الإخوان السياسية حاليا، هو أن ثمة من يريد تكرير سيناريو «الإخوان» في بلدان الخليج، بل ويسمي برنامجه وحراكه بنفس الاسم المصري والتونسي: النهضة، ويحاول هذا التيار إثارة قضايا ذات بريق شعبي، وعدم طرح البرنامج الحقيقي «الخفي» في هذه اللحظة، ونسج تحالفات «جبهوية» مع قوى متعددة لا تنتمي لتيار «الإخوان»، حتى إضعاف السلطة القائمة أو إنهاكها لتلبية المطالب بما يحول «الإخوان» ومن معهم إلى السلطة الحقيقية.
وما يجري هذه الأيام في الكويت من حشد تعبوي سياسي صاخب تحت عنوان حماية القانون الانتخابي ومطلب الحكومة الشعبية، بالتحالف مع قوى غير إخوانية، وعدم رفع أي شعارات خلافية ذات صبغة إخوانية، دليل على ذلك، وهو نفس التكتيك الذي اتبعته جماعة الإخوان في المرحلة الأولى من الانتفاضة على نظام مبارك، حيث تم تغييب الشعارات الخلافية، بل وتم تعمد إخفاء ظهور «الإخوان» في الميدان، في الأيام الأولى، حسبما صرح المرشد محمد بديع.
وفي غير الكويت هناك شعارات «جبهوية» أخرى ترفع للتحشيد والعمل السياسي المشترك، مثل شعار «الحقوق» والمعتقلين في السعودية والإمارات، وهو حراك جمع الشيعي المسيس، بالجهادي القاعدي، بالسلفي الاحتسابي، بالكادر الإخواني، بالناشط القومي الناصري، بالمناضلة النسوية، بالحانق الجهوي، في خلطة غريبة سوريالية، ولكن سرعان ما سينفك هذا النسيج عند أول لحظة نقاش جدي على العناوين الحقيقية للفكر والسياسة ورؤية المجتمع والعالم. زبدة القول هنا هو أنه تحالف هش نواته الصلبة هو القوى الأصولية «المسيسة» وليست الساذجة أو حديثة الفهم للمكر السياسي.
المفارقة أن قطار «الإخوان» في مصر بدأ يسير لوحده، وتخلى عن حلفاء الأمس، أو تخلوا عنه، بينما هو في دول الخليج يريد بداية الرحلة من نفس نقطة انطلاق القطار الإخواني المصري!
يبقى توضيح مهم، لبعض من يستعجل الفهم والتعليق، كل ما سلف من حديث لا يعني عدم نقد البرامج الحكومية والسياسات المتبعة، وتشريحها، وطلب التطوير والإصلاح، ضمن شرط بقاء البناء الجامع كما هو، هذا أمر مفروغ منه، وكثير من الكتاب والبرامج الحوارية تتحدث عنه في السعودية والكويت وغيرها من دول الخليج، بدرجات مختلفة. نحن هنا لسنا في صدد مديح السياسات، ولا صدد هجائها أيضا، بل حديثنا في مقام آخر، هو في وضع اليد على المضمر السياسي في هذه الحركات التي يبدو أن لديها شهوة «الافتعال» والتأزيم على أمور لا تستحق كل هذه الجلبة، ولكن كما قال المثل اللبناني: القصة موش قصة رمانة.. لكن قلوب مليانة!
بكل حال، يجب أن نتوقع مثل هذه الهبات الساخنة على الخليج بفعل الاضطراب الإقليمي، والصولة الإخوانية في العالم العربي، وحالة الحرب المفتوحة مع إيران وسوريا. من المؤكد أن يكون لهذه الظروف انعكاسها على دول الخليج، وكذلك نمو الشباب المتزايد وثورة الاتصالات وتخمة الأخبار والإشاعات. وخير ترياق لهذا كله، هو هدوء الأعصاب، ومعرفة الدوافع الحقيقية لمن يتحرك الآن للتأزيم. وأهم من هذا كله هو سحب الذرائع التي يستخدمها المعارضون، من خلال الشروع حقيقة بما يريده الناس، كل الناس في دول الخليج؛ رفاه العيش، والأمن، والعدل في حقوق الناس. كل تحسن في هذه الأمور وتقدم، هو تهميش لهذه الأصوات الصاخبة التي لديها ما لديها من رغبات وأحلام سياسية.. ما أمر مصر وما جرى فيها من انكشاف سريع في البرامج والأجندة خلال فترة يسيرة، عنا ببعيد.. لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد!