قبل ثلاثة عقود وصل صبحي إلى مدينة الرياض يحمل حقيبة صغيرة تحتوي على قميص وبنطلون وثلاثة ملفات أوراقها مختومة وموثقة، في جيبه وثائق إثبات الشخصية وجواز السفر و50 دولاراً، حاول عبر الهاتف الاتصال بالكفيل الذي حمّله من التكاليف ما لا يطيق حتى حصل على تأشيرة الدخول، لم يتمكن من الوصول إلى كفيله رشاد إلا بعد أن طفح به الكيل وذاق الأمرين.
رحب به رشاد، وبعد تناول طعام الغداء، أخذه في خلوة إلى مكتبه المنزلي الذي يدير منه شبكة تجارته المحلية والدولية، وقال له بعد أن إطمئن على الملفات الثلاثة، لقد تعمدت يا إبني صبحي ألا أُجيب على إتصالاتك الهاتفية حتى تعيش ظروف الأسبوع الأول الذي عشته عندما وطئت قدماي أرض هذه البلاد، أريدك أن تعرف أن أمامك فرصاً عظيمة ولكن لن تستطيع الوصول إليها بسهولة، ولن أبسط لك الأرض وروداً، الجد والصبر سيوصلك إلى مبتغاك وهدفك. أهل هذه الأرض يا صبحي طيبون وفي بعض الأحيان تتعجب من سماحتهم التي تصل إلى حد السذاجة، وسأكشف لك سر إلحاحي عليك بأن تنفق ما لديك وما اقترضته من مال في سبيل الحصول على تأشيرة العمل والشهادات الثلاث، فأنت في الأساس طبيب بيطري وطلبت منك إحضار شهادتين إضافيتين واحدة في الكيمياء الحيوية وأخرى في التربية، وأمامي الآن دراستان لإنشاء مشروعين، الأول افتتاح مدارس للبنين والبنات ستشرف عليها زوجتي «أم سامر»، التي حصلت على الدعم من وزارة المعارف «التربية والتعليم حالياً»، والمشروع الآخر سيكون إنشاء مركز للتحاليل الطبية مساند للمستشفى الذي أملكه. تبسم صبحي وقال لأبو سامر، الله يزيدك وأنا بخدمتك، ولكنني خائف من كشف أوراق الشهادات المزورة، قاطعه رشاد بضحكة مدوية وقال «دع الملفات للكفيل واستمتع بحياتك الجديدة»، أنسيت أنني أحمل جنسية هذا البلد وأصبحت مواطناً أتمتع بالمزايا والحقوق كافة المتاحة لغيري، ألم «أقل لك» إن رجاجيل هذا البلد الطيب يعشقون بل أدمنوا على «تجارة النسبة الخاملة»؟!
لم أسمع بهذا المصطلح التجاري من قبل يا أبا سامر؟ بعضهم يا صبحي يطلق عليها التستر، وأنا أصبحت أكره هذا المسمى الذي بدأت به أعمالي عندما وصلت إلى هذه البلاد وأنا في الـ30 من عمري، أهل هذه البلاد أفاء الله عليهم بنعم عظيمة، ولكنهم لا يُحبون وجع الرأس، ويبحثون عن الراحة، يكتفون بدراهم شهرية معدودة تُؤمن لهم دخلاً ثابتاً، على الورق هم المالكون للسجلات التجارية، ورخص الورش، والمصانع، والمستوصفات ومراكز التحاليل الطبية، والمدارس، وشركات المقاولات، وأعمال الصيانة، والمحال التجارية بمختلف أنواعها وأنشطتها، حتى تجارة التمور طارت من أيادي القصمان والخرجاويين إلى الأفغان والباكستانيين؟!
ما أخبار ابنيك سامر ومحمود؟ سامر «ما شاء الله عليه» يعمل مسؤولاً في أحد البنوك الكبيرة في الرياض، وهو يساعدني في ترتيب استثماراتي والتسهيلات البنكية التي أحصل عليها، أما محمود فهو مبتعث على حساب الدولة «الله يقويها» لدراسة الطاقة الذرية والمتجددة، أنا يا صبحي بعمل حساب للمستقبل، البترول سينضب ولو بعد حين، ولكن «شمس ربنا» دائمة ما دامت السموات والأرض!
عَيّن أبو سامر صبحي مسؤولاً عن مركز التحاليل الطبية ولم يمنع تخصص الطب البيطري الذي يحمله من أن يكون عضواً فاعلاً في الأنشطة التي تقام من أجل الطب البشري، وقد أفزع الحاضرين مرةً وهو يقول إن الأمراض التي تفتك بالإنسان هي الأمراض ذاتها التي تقتل الحيوانات، وعندها أوقفه طبيب سعودي «ملوسن» وقال بصوت مرتفع، أرفض أن يقال هذا الكلام السطحي في مؤتمرنا العلمي وأطالب بالتحقيق مع هذا الطبيب الذي أشك في مؤهله العلمي، تدخل بعض الأطباء الطيبين ممن لهم علاقة ومصالح مع كفيله أبو سامر وتم تسوية الخلاف!
تزوج صبحي ابنة أبو سامر المطلقة التي تحمل الجنسية السعودية، وبعدها تسعود مستغلاً نفوذ عمه الواسع، وبعد عامين حدث غزو العراق للكويت، وقبل بدء حرب التحرير كان أبو سامر بمساعدة ابنه «البانكر» قد نقل أرصدته المالية إلى حساباته في بنوك خارجية، ثم غادر مع زوجته وبعض أبنائه وأحفاده للاستقرار في قصره الفاخر في استراليا خوفاً على نفسه وأسرته من تبعات الحرب، وأوكل أعماله إلى ابنه سامر وزوج ابنته صبحي، وبعد تحرير الكويت من الاحتلال العراقي اتصل بابنه وأمره أن يملأ الصحف المحلية بإعلانات التهاني والتبريكات بسلامة الوطن وشجاعة الجنود البواسل، وتهنئة الكويت بالتحرير، وبعد أسبوع عاد إلى أرض الوطن مُستقبلاً بالحفاوة. ما الذي تغّير؟! في الأسبوع الأول من تشرين الأول (أكتوبر) عام 2012 «في الثامنة مساءً»، وبعد أن غرق في سهام علامات الاستفهام أطلق الإعلامي اللامع داود الشريان صيحة أسمعت من به صمم «وش قصتك يا حسين»، وكأني به انتشل السؤال من عذاب أحداث التفاصيل حين واجه الثقة الباردة وصمود الاتكاء التي أحاطت برئيس مجلس أمناء الكليات العالمية الأهلية الدكتور حسين عثمان التي لوثت سمعة ومكانة التعليم في الوطن!
تكالبت على أخينا داود مصائب الحلقة وهو يقرأ من الوثائق الرسمية أسباب إغلاق الكليات المشبوهة، وطلاب من ضحايا الأكذوبة التعليمية يروُن تفاصيل المأساة، وخبراء بجانبهم شخّصوا الداء والتجاوزات، كل هذا كان له بالمرصاد رجل – كما ذُكر بالبرنامج – خرج من الوطن قبل سنوات متهماً في قضية أطفال الأنابيب، ثم عاد إليه حاملاً الجنسية الأميركية، وأسس بعد حصوله على الجنسية السعودية الكليات العالمية الأهلية، وهو في الحلقة يتحدث مع داود من العاصمة المجرية بودابست بثقة واطمئنان ولغة فاحت برائحة التحدي عندما قال «الدكتور العنقري اللي باعثكم (يقصد وزير التعليم العالي)؟!
هَوّن عليك يا أبا محمد، قصة حسين هي قصة أبو سامر وصبحي المنسوجة من خيال يحاكي الواقع، وهي نموذج لقصص وحكايات كثيرة أصابت الوطن بتخمة إعوجاج المسار التنموي، والخلل الذي أحدث فصول الإرتباك في النسيج الاجتماعي، قصة حسين تُفنّد واقع التجربة المريرة لتوطين فنون الفساد بدلاً من توطين المعرفة والتقنية، وستستمر ما دمنا عاجزين عن إيقاف المد الاستقدامي العشوائي الذي يتجاوز مليون إنسان في العام الواحد، هم بريئون ونحن المذنبون تساندنا أنظمة هشة تتلاعب بها عواطف القرارات الشعبوية، ويقف أمام إصلاحها بالمرصاد قوة نفوذ رجال أعمال يسعون للكسب الحلال باستنزاف ثروات الوطن ودفاعهم المستميت بعدم المساس بمنجم الإعانة الذهبي الذي جعلوا منه عقداً بينهم وبين مكونات الوطن، نصيب الوطن يا داود من إنشاء أكثر من 7000 مصنع يعمل بها ما يزيد على 600 ألف موظف، 10 في المئة فقط من أبناء الوطن، ولا نزال عند الإعلان عن إنشاء مصنع نسمع صدى زغاريد الفرحة والبهجة في مومباي ومانيلا ودكا، وستصل قريباً إلى البيوت في موزمبيق ونيكاراغوا؟! وإذا استمررنا على ما نحن فيه، ما أقرب اليوم يا داود الذي سيأتي ويجلس على يمينك ويسارك «في الثامنة» أطباء يشتكون من عدم قبولهم في المستشفى الذي يملكه الدكتور المواطن الفاضل حسين عثمان؟!