اسم ليس بغريب لكنه كان كدابّة الأرض التي أكلت منسأة سليمان عليه السلام فسقط جسده على الأرض، "زرياب" هذا كان من مطربي بغداد، تربى هناك في بيوت الخلفاء والأمراء حيث كان يغني لهم ويطربهم، وكان معلّمه هو إبراهيم الموصلي كبير مطربي بغداد في ذلك الوقت.
مع كرّ الأيام ومرّ السنين لمع نجم زرياب في بغداد فغار منه إبراهيم الموصلي، فدبّر له مكيدة فطُرد من البلاد، كانت مشارق الأرض الإسلامية ومغاربها متسعة جدًا في ذلك الوقت، وبعد حيرة وجد "زرياب" ضالته في الأندلس؛ حيث الأموال الكثيرة والحدائق والقصور، وهي صفات كثيرًا ما يعشقها أمثال هؤلاء، وبالمقابل فمثلها أيضًا تكون أرضًا خصبة لاستقبال وإيواء أمثالهم.
الأندلس إلى هذه الفترة لم تكن تعرف الغناء، إلا أن "زرياب" ذهب إلى هناك فاستقبلوه وعظّموه وأحسنوا وفادته، حتى دخل على الخلفاء، ودخل بيوت العامه ونواديهم، فأخذ يغنّي للناس ويعلمهم ما قد تعلمه في بغداد، ولم يكتف "زرياب" بتعليمهم الغناء وتكوين ما يسمى بـ الموشحات الأندلسية، لكنه بدأ يعلمهم فنون (الموضة) وملابس الشتاء والصيف والربيع والخريف، وأن هناك ملابس خاصة بكل مناسبة من المناسبات العامة والخاصة.
ولم يكن الناس في الأندلس على هذه الشاكلة، إلا أنهم أخذوا يسمعون من "زرياب" ويتعلمون، خاصة وأنه قد بدأ يعلمهم أيضًا فنون الطعام كما علمهم ملابس الموضة تمامًا، وأخذ يحكي لهم حكايات الأمراء والخلفاء والأساطير والروايات وما إلى ذلك حتى تعلّق الناس به بشدّة، وتعلّق الناس بالغناء وكثر المطربون في بلاد الأندلس، ثم بعد ذلك انتشر الرقص، وكان في البداية بين الرجال ثم انتقل إلى غيرهم وهكذا.
الغريب أن دخول "زرياب" إلى أرض الأندلس كان في عهد عبد الرحمن الأوسط - رحمه الله - ذلك الرجل الذي اهتمّ بالعلم والحضارة والعمران والاقتصاد وما إلى ذلك، لكنه - وللأسف - ترك "زرياب" يفعل كل هذه الأمور وينخر في جسد الأمة من دون أن يدري أحد.
ففي الوقت الدي انتعشت فيه النهضة العلمية وكثر العلماء، إلا أن كلام زرياب المنمق وإيقاعه الرنان صرف الناس عن سماع العلماء إلى سماعه هو، وصرف الناس عن سماع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن سماع قصص السلف الصالح إلى سماع حكاياته العجيبة وأساطيره الغريبة، بل والله لقد صُرف الناس عن سماع القرآن الكريم إلى سماع أغانيه والتعلّق بلهوه ومجونه.
وللأسف فإنه بالرغم من مرور أكثر من ألف ومائتى عام على وفاة زرياب هذا، إلا أن له شهرة واسعة في كل بلاد المغرب العربي، فلم يسمع الكثير من الناس عن السمح بن مالك الخولاني وعنبسة بن سحيم رحمهم الله ولم يسمعوا عن عقبة بن الحجاج أو سيرة عَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل أو عبد الرحمن الأوسط، ولم يسمعوا عن كثير من قواد المسلمين في فارس والروم وفي بلاد أفريقيا والأندلس لكنهم سمعوا عن زرياب، ويعرفون سيرته وتفاصيل حياته، بل إن موشحاته الأندلسية ما زالت إلى يومنا هذا تغنى في تونس والمغرب والجزائر، ومازالت تُدرّس سيرته الذاتيه هناك على أنه رجلا من قواد التنوير والنهضة، يمجَّد في حربه ضد الجمود وكفاحه من أجل الفن، ولا يعلم الناس أن زرياب هذا ومن سار على طريقه كان سببًا رئيسيًا في سقوط بلاد الأندلس، ولا حول ولا قوة إلا بالله.