تتغير المجتمعات وتنهار حضاراتهم اذا تغيرت أخلاقهم الى الاسوأ، وهبت فيهم الاطماع، واخذوا ينهبون بلادهم بالرشوة والسرقات بأنواعها، ويتعاون السفلة مع بعضهم بعضاً حتى تتهدم مباني دولتهم، اجهزة الدولة يدب فيها الفساد، والمجلس الذي يمثل الشعب ينخره الفساد ويزداد ثراء اعضاء بسرقات مقننة، حتى يصير بعض اعضائه مندوبين لشركات كبرى لقاء نصيب من النهب المبرمج محاسبيا، هؤلاء المفسدون طغوا على سطح المجتمع وصار لهم جاه وسلطان يرتدون اقنعة التقى.. وتدخلوا في كل جهاز حتى سئم المخلصون وابتعدوا عن مناصبهم لرفضهم ان يكونوا ادوات مطواعة في يد المتجاوزين، رجل الامن ابتعد بعد ان ذهبت هيبته، والمدرس بعد ان نأت كلمته، ودب الفساد حتى في مؤسسات الاصلاح.. وظهرت الاسواق السوداء لبيع الشهادات العليا.. وعرضت المفاهيم للبيع والشراء.
٭٭٭
القاضي عبدالوهاب المالكي جاءت ترجمته في فوات الوفيات الجزء الثاني، كما جاءت في العقد الفريد، وهو من اعلام الفقه والادب في زمنه في بغداد ضاق به العيش في العراق فلم يجد قوت يومه حتى انه قال لو توفر لي في اليوم رغيفان ما تركت بغداد، ولم يعنه احد في العراق على حاجته المتواضعة الى رغيفين في اليوم حتى قال اذا استوت الاسافل والاعالي فقد طابت منادمة الموت والزهد في العيش في بلد لايفرقون بين العالم وأسافل الناس:
متى تصل العطاش إلى ارتواء
إذا استقت البحار من الركايا
ومن يثني الأصاغر عن مراد
إذا جلس الأكـــــابر في الزوايا
وإن ترفع الوضعاء يــــــــوما
على الرفعاء من أقسى البلايا
إذا استوت الأسافل والأعالي
فــقد طابت منادمـــــــة المنايا
وعاش القاضي عبدالوهاب في بغداد ولكنه تركها لاملاق لحقه في آخر ايامه حتى قال ان بغداد لا تصلح لرجل علم وفقه بل تصلح لمن في جيبه مال ويجاري الأهواء:
بغداد دار لأهل المال طيبة
وللمفاليس دار الضنك والضيق
ظللت حيران أمشي في أزقتها
كأنني مصحف في بيت زنديق
ويقول ايضا في ذلك:
سلام على بغداد في كل موطن
وحقَّ لها مني سلام مضاعف
فوالله ما فارقتها عن قلى بها
واني بشطي جانبيها لعارف
ثم رحل الى مصر واكرمه اهلها، وعاش مكرما معززا في مصر، وقال صاحب فوات الوفيات:
نبت به بغداد ولم تعنه على حاله
ونكرت صاحب فضلها حتى قال لمودعيه
في بغداد لوجدت وانا فيكم رغيفين
من الخبز كل غداة وعشية ما عدلت عن بلدكم
وقال في ذم بغداد أبو العالية بن مالك الشامي:
اذم بغداد والمقام بها
من بعد ما خبرة وتجريب
ما عند ملاَّكها لمرتقب
رفدٌ ولا فرجة لمكروب
[خلو سبيل العلا لغيرهم
ونازعوا في الفسوق والحوب]
يحتاج راجي النجاح عندهم
الى ثلاث من بعد تقريب
كنوز قارون أن تكون له
وعمر نوح وصبر أيوب
ويقول الشربشي في شرح مقامات الحريري ان القاضي عبدالوهاب كان يتمنى رغيفين كل غداة وعشية في وقت كان الخبر فيه عندهم ثلاثمائة رطل بدينار وذكر الشرشي ذلك كله في معرض الكلام عن ابيات للحريري هي:
لا تصبون إلى وطـن
فيه تضام وتمـتـهـن
وارحل عن الدار التـي
تعلي الوهاد على القنن
واهرب إلى كـن يقـي
ولو انه حضنا حضـن
وجب الـبـلاد فـأيهـا
أرضاك فاختره وطـن
واعلم بأن الـحـر فـي
أوطانه يلقى الـغـبـن
كالدر في الأصداف يستزرى ويبخس في الثمـن
هكذا قال القاضي عبدالوهاب المالكي في بغداد بعد ان ضاقت به وصد عنه اهلها:
اذا استوت الأسافل والأعالي
فقد طابت منادمة المنايا