فقد ذكر الإمام ابن القيم الشروط العمرية في كتابه أحكام أهل الذمة، وعزاها لعدد من المصادر وأضفنا نحن مصادر أخر:
أولها مسند الإمام أحمد، فقد روى ابنه عبد الله في زوائده على المسند، فقال: حدثني أبو شرحبيل الحمصي حدثني (عمي) أبو اليمان وأبو المغيرة قالا: أخبرنا إسماعيل بن عياش قال: حدثنا غير واحدٍ من أهل العلم قالوا: كتب أهل الجزيرة إلى عبد الرحمن بن غنم: "إنا حين قدمت بلادنا طلبنا إليك الأمان لأنفسنا، وأهل ملتنا على أنا شرطنا لك على أنفسنا:
ألا نحدث في مدينتنا كنيسة، ولا فيما حولها ديراً،
ولا قلاّية (بناء كالدير)،
ولا صومعة راهب،
ولا نجدد ما خرب من كنائسنا،
ولا ما كان منها في خطط المسلمين،
وألا نمنع كنائسنا من المسلمين أن ينزلوها في الليل والنهار،
وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل،
ولا نؤوي فيها ولا في منازلنا جاسوساً،
وألا نكتم غشا للمسلمين، وألا نضرب بنواقيسنا إلا ضرباً خفيفاً في جوف كنائسنا،
ولا نظهر عليها صليباً،
ولا نرفع أصواتنا في الصلاة ولا القراءة في كنائسنا فيما يحضره المسلمون،
وألا نخرج صليبا ولا كتاباً في سوق المسلمين،
وألا نخرج باعوثاً - والباعوث يجتمعون كما يخرج المسلمون يوم الأضحى والفطر- ولا شعانين (عيد للنصارى)،
ولا نرفع أصواتنا مع موتانا،
ولا نظهر النيران معهم في أسواق المسلمين،
وألا نجاورهم بالخنازير،
ولا نبيع الخمور،
ولا نظهر شركاً،
ولا نرغِّب في ديننا، ولا ندعو إليه أحداً،
ولا نتخذ شيئاً من الرقيق الذي جرت عليه سهام المسلمين،
وألا نمنع أحداً من أقربائنا أراد الدخول في الإسلام،
وأن نلزم زينا حيثما كنا،
وألا نتشبه بالمسلمين في لبس قلنسوة ولا عمامة،ولا نعلين، ولا فرق شعر،ولا في مراكبهم،
ولا نتكلم بكلامهم،
ولا نكتني بكناهم،
وأن نجزَّ مقادم رؤوسنا،
ولا نفرق نواصينا، ونشدُّ الزنانير على أوساطنا،
ولا ننقش خواتمنا بالعربية،
ولا نركب السروج،
ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله، ولا نتقلد السيوف، وأن نوقر المسلمين في مجالسهم،
ونرشدهم الطريق، ونقوم لهم عن المجالس إن أرادوا الجلوس،
ولا نطلع عليهم في مجالسهم، ولا نعلم أولادنا القرآن،
ولا يشارك أحد منا في تجارة إلا أن يكون إلى المسلم أمر التجارة،
وأن نضيف كل مسلم عابر سبيل ثلاثة أيامٍ،
ونطعمه من أوسط ما نجد. ضَمِنَّا لك ذلك على أنفسنا وذرارينا وأزواجنا ومساكيننا،
وإن نحن غيّرنا أو خالفنا عمّا شرطنا على أنفسنا، وقبلنا الأمان عليه، فلا ذمة لنا، وقد حل لك منا ما يحل لأهل المعاندة والشقاق.
فكتب بذلك عبد الرحمن بن غنم إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكتب إليه عمر: أن أمض لهم ما سألوا، وألحق فيهم حرفين أشترطهما عليهم مع ما شرطوا على أنفسهم:
ألا يشتروا من سبايانا شيئاً، ومن ضرب مسلماً عمداً فقد خلع عهده.
فأنفذ عبد الرحمن بن غنم ذلك، وأقر من أقام من الروم في مدائن الشام على هذا الشرط".
وروى هذه الشروط الخلاّل في كتاب أحكام أهل الملل من طريق عبد الله بن الإمام أحمد.
ثانيها: أخرج البيهقي في سننه (السنن الكبرى 9/202) عن عبد الرحمن بن غنم قال: كتبت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح أهل الشام:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا، إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا، وشرطنا لكم على أنفسنا ألا نحدث في مدينتنا، ولا فيما حولها ديراً ولا قلاّية ولا كنيسة ولا صومعة راهب.. فذكر نحو رواية عبد الله بن الإمام أحمد.
ثالثها: روى سفيان الثوري عن مسروق بن عبد الرحمن بن عتبة، قال: كتب عمر رضي الله عنه حين صالح نصارى الشام كتاباً وشرط عليهم فيه... فذكر نحو ما ذكر في رواية عبد الله بن الإمام أحمد، مع خلاف يسير في ألفاظه.
وكل رواية من روايات هذا الأثر لا تخلو من مقال في إسنادها، إلا أن الأئمة تلقوها بالقبول، وذكروها في كتبهم، واحتجوا بها، ولم يزل ذكر الشروط العمرية على ألسنتهم وفي كتبهم، وقد أنفذها بعده الخلفاء، وعملوا بموجبها (أحكام أهل
الذمة لابن القيم 3/1163-1164).
وقال الإمام ابن تيمية: "في شروط عمر بن الخطاب رضي الله عنه التي شرطها على أهل
الذمة لما قدم الشام، وشارطهم بمحضر المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، وعليه العمل عند أئمة المسلمين، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة".
وقوله صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللذين من بعدي، أبي بكر وعمر" لأن هذا صار إجماعاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين لا يجتمعون على ضلالةٍ على ما نقلوه وفهموه من كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم".
مجموع الفتاوى 28/651.
أما تسمية هذه الشروط بالعهدة العمرية أو العهد العمري فلا حرج في ذلك ، فكل من اللفظين مستقيم لغة ، والنسبة إليه صحيحة .
والله أعلم.