في وقتٍ مضى قبل عشرينَ عاماً أو تزيد كنتُ ومجموعةٌ من الرفاق نجتمعُ كلّ يومٍ تقريباً تحضننا أروقةُ غرفةٍ في أطرافِ المسجدٍ يسمّونها ( مكتبة ) تقع تحت كيانٍ قانوني مرخّصٍ وقتها ويكون فيها من جميلِ المعارفِ والنقاشِ ولذيذ حفظِ النفوسِ والأوقاتِ ما لا أحصيه عدَدا ..
كان الوقتُ بها طويلاً جداً ولم يكن ثمّ جوالٌ يلهيك عن قراءاتك أو شيءٌ يصرفك عن حديثِ جلّاسك، وبذاتِ الوقتِ أسَفاً لم تكن هناك أجهزةُ اتصالٍ حديثةٌ تيسّر لك أمرَ بحثَك أو كاميرا توثّق أشياءَك الجميلةَ وتحفظها لمستقبلِ الأيام ..
أعترفُ أنني لم أكنْ من المنضبطين في الالتزامِ بقوانينِ تلك المكتباتِ ولم أعدْ أدركُ بعدُ كيف تسارعتْ أطوارُها للنهاية حتى انتهتْ تماماً، لكنني أؤمن أنّها قد شكّلت ذكرى جميلةً في حياةِ أهلِها والقريبين منها، ولا زلتُ أتمنى أن تجدَ كتاباً أو رواية أو حتى فيلما سينمائياً ينصفُها بكلّ ما فيها، ويحكي تجربتَها للأجيال ..
لم يكن هذا هو الموضوعُ الذي أردتُ الكتابةَ عنه هنا لكنّها مقدمةٌ استدعاها شوقٌ عابرٌ ربّما، وحنينٌ لذكرياتٍ قديمات ..
ذاتَ عِشاءٍ من ذاكَ الزمان كان ضيفُ المكتبةِ شيخٌ جليلٌ - وجهُه من فرْط النورِ كأنّه المصباحُ - يحدثنا عن قيامِ الليل ..
وكان بالنفوس من الهممِ وقتها ما يشفع لطلبةِ الثانوية أن يناقشوا هذا الموضوعَ وينافسوا في اقتناصِ فرصِه ..
وحدَّثنا فضيلةُ الشيخِ حديثا شيّقاً جاء فيه :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( عليكم بقيام الليل فإنه دأبُ الصالحين قبلكم ، ومنهاةٌ عن الإثم ، ومطردةٌ للداءِ عن الجسد )
رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( واعلم أن شرف المؤمن قيامُه بالليل، وعزّه استغناؤه عن الناس “
رواه الحاكم والبيهقي وحسنه الألباني
وأحاديثُ وآثارٌ جميلة في ذاتِ السّياق ..
انتهى ذاك الدرسُ بمداخلاتِه ونقاشاتِه قرابة الساعةِ العاشرة ليلاً، وتفرّق الجميعُ بعدها كما يفعلون كلّ ليلةٍ ، بحسب ترتيبٍ يجيء قدَراً أو ربّما يكونُ مخطّطاً له وخاضعاً لاعتباراتٍ معينة - الشك منّي -
الأهمّ أن السيارات تتحرّك ويكون في كل سيارةٍ ثلاثةٌ أو أربعةٌ تتشاكلُ أرواحُهم وأسنانُهم .. وبطول امتدادِ شارع السّويدي الشهير كانت تقع ثلاث بوفيّات شهيرات ؛ "الشراع" في الطرف الشرقي و"الديوان" غيرَ بعيدة عنها إلى جهة الغرب و "وضّاح" في طرف الشارعِ الغربيّ ..
ويكون اختيارها والمسيرُ لها عبر فرصِ التصويتِ أحياناً أو استبدادِ قائد المركبةِ في أغلبِ الأحيان ..
ثم تجيءُ حريّةُ اختيارِ الطلباتِ التي لا تتأخّر عادةً عن اثنين شاورما أو "تشكن تشيز برجر" مع بيبسي أو سفن أب، يتمّ ذلك كله من دون مغادرةِ السيارة وتنتدبُ كلّ بوفيةٍ - طمعاً في تدليلِ زبائنها - من عمّالها من يخرجُ لـ لقاءِ الناسِ في سياراتهم وتوصيلِ طلباتهم ..
تصل الوجباتُ سريعاً ويتم توزيعها بتؤدةٍ بالغةٍ وفرزِ خصائص الكاتشب والشطة والجبن فيما بينها ، ثمّ تؤكل غالباً مع مسير السيارة وتغلغلها في الوصول للبيوت المطلوبة، وفي بعض المرّات ومراعاةً لظرفِ قائد المركبةِ أو تبعاً لتسلّطه المألوف يقف الجميعُ في مكانٍ ما حتى الانتهاء من وجبةِ العَشاءِ، ولا يكونُ وقوفاً طويلاً ..
نصلُ ؛ شقيقي أحمد وأنا لبيتنا أخيراً والساعةُ قريبةٌ من منتصفِ الليل .. وهكذا كلّ الرفاق .. في أعمار طلابَ مرحلةٍ ثانوية فعلاً ، لكنّهم في أوزانٍ بحجمِ أولياءِ أمور قد انتهوا للتّو من وجبةٍ دسمةٍ متبوعةٍ بمشروبٍ غازيٍّ وسهرٍ لساعةٍ قريبةٍ من منتصفِ الليل ..
ومع ذكرى حديثِ الشيخِ ذي الوجهِ الصبوحِ ووقدةِ الشوقِ لقيام الليل نغطّ في نومٍ عميقٍ لا يوقظه إلا انزعاج والدينا من تأخرِنا عن القيامِ لصلاةِ الفجر أو تفريطِنا ربّما في إدراكِ صلاةِ الجماعة !!
وبقيناً كلّ حين نلوم أنفسنا على تفريطِنا في قيامِ الليل رغم كلّ ما نؤمن به من المآثر عنه، ونغالبُ أنفسنا بكثيرٍ من الإصرارِ ؛ فنصمدُ له أسبوعاً وننهارُ أسابيع ..
وندعوا الله كثيراً أن يجعلنا في ركبِ القائمين ...
مرّت السنين بعد ذلك كأسرعِ ما يكون محمّلةً بهمومِ الزواجِ والولدِ والوظيفة وعِراك تفاصيل الحياة باهتماماتِها المختلفة ..
تمرّ مرّ السحاب لا تدري كيف طارتْ ولا إلى أينَ تطير .. ويكتبُ الله لي أن أقضيَ سنواتٍ من عمري في الولايات المتحدة الأمريكية .. بعيداً عن صوتِ الأذان ، وفي غيابٍ كبيرٍ عن رؤيةِ الصالحين والبوفيّات أيضاً 🤗
وهناكَ في مجتمعٍ يؤمن بمعايشةِ الطبيعة والتصالحِ معها، وتكون آخرُ وجباته ( الدّينَر ) مساءً قبل حلولِ الظلام .. يستهلك العملُ أوقاتهم فينامون مبكراً، وليس في ثقافتِهم لـ الليل رغمَ طوله في أغلب العامِ إلا ( السناك ) الأكلُ الخفيفُ الذي يكسر حدّة الجوع فقط، ويُبقيكَ حيّا في انتظار الصباح ..
هناك فجأةً أدركت سرّ الأمر ووجدتني أصحو من نومي ساعةَ السحَر كأكثر ما أكون نشاطاً وإشراقا ، وما جعلتُ للمنبّه فرصةَ إيقاظي من حين وصلتُ حتى الساعةَ ، وإنما أستيقظُ مكتفياً وأجدُ لـ لذة الوصلِ والصلاةِ والمناجاة التي كان يحدثنا بها فضيلة الشيخ ما لا يخطر على بال، أو على الأقلّ يكون لي كاملُ الإرادة في اختيار تلك الحالِ أو العبثِ بمقتنياتِ الجوالِ وملهياتِه حتى مطلعِ الفجر ..
وتطيبُ لي بعدها أيضاً ساعاتُ الصباح الأولى وممارسة رياضة المشي، وأفقدُ أرطالاً من الأوزان التي صنعتها تلكَ البوفيّات وتلك الأيام ..
يا رفاقي القُدامى..
كلّ من غالبَ الطبيعة غُلِب، والذي ينامُ منتصفَ الليل بعد وجبة دسمةٍ وحديثٍ طويلٍ عن فضلِ قيام الليل - لم يختاروا له إلا َ ما بعد صلاةِ العشاء - لا يمكن أن يقومَ الليل، ولو جاهدَ نفسه شهراً أو شهرين .. وربما كان خطراً عليه أن يفقد أيضاً صلاةَ الفجر .. ولا يمكنُ له أن يهنأ ببسمةِ صُبحٍ أو إشراقة عملٍ وكفاح ..
عُودوا إلى الحياةِ الطبيعيةِ، وابحثوا في سيرةِ أسلافكم الأقربين منكم والأبعدين ، وسيُدهشكم عن صحابة رسول الله أنَّ رؤوسهمْ كانت تخفقُ من النومِ في انتظارِ صلاة العشاءِ، وأن مواقيتَ وجباتِهم كانت شبيهةً بما يفعله الأمريكان هنا، وأن ساعاتِ الفجر والصباح الأولى هي الأثيرةُ في حياتهم ..
وتأكّدوا أن كل خطواتِ البحث عن إصلاحِ الأشياء تبدأُ من عودةِ الأمور لطبيعتها وتركِ تحدّي سننِ الله الكونية، ( والله الذي جعلَ لكم الليلَ لتسكنوا فيه والنهارَ مُبصراً ..)
وانقلوا عن رفيقِكم القديم أنّه يقول : أمريكا هي الغاويةُ التي علّمتني قيامَ الليل..!!! ♥
آخر المطاف ..
عن أنسٍ رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا قُدّم العَشَاء فابدأوا به قبل أن تصلّوا ( المغرب ) متفق عليه .