جاء رجل إلى عمر بن الخطاب يشكو إليه عقوق ابنه فأحضر عمر الولد و أنّبه على عقوقه لأبيه و نسيانه لحقوقه عليه، فقال الولد : يا أمير المؤمنين أليس للولد حقوق على أبيه ؟ قال : بلى ، قال : فما هي يا أمير المؤمنين ؟ قال عمر : أن ينتقي أمه و يحسن اسمه و يعلّمه الكتاب أي "القرآن " . قال الولد : يا أمير المؤمنين إنّ أبي لم يفعل شيئًا من ذلك، أما أمي فإنها زنجيّة كانت لمجوس... و قد سمّاني جُعْلاً أي " خنفساء " و لم يعلّمني من الكتاب حرفاً واحداً . فالتفت عمر رضي الله عنه إلى الرجل وقال له : جئت إليّ تشكو عقوق ابنك وقد عققته قبل أن يعقّك، و أسأت إليه قبل أن يسيء إليك.
وقد عرف عن العرب عبر تاريخهم، وفي كل العصور، أنهم يعتزون بالحسب والنسب، وهذا أمر لا تهاون ولا تفريط فيه، يرقى إلى مرتبة القداسة، فلا يجرؤ أحد على المساس به، أو التعرض له بأية وسيلة، وإلا فالحرب والعداوة التي قد تمتد أجيالا، فقد تهدأ أحيانا، ولكنه الهدوء الذي يسبق العاصفة.
الفخر بالحسب والنسب من أهم سمات العرب، ومن أخص خصائصهم..لذا وجدنا أن الشعروهو ديوان العرب، قد سجل لنا ، منذ العصر الجاهلي، ومرورا بما تلاه من العصور- غرر القصائد التي سجلت ما كان عليه هذا الاعتزاز، وما وصل إليه.
إن أغراض الشعر العربي، وأهمها: الفخر والمديح ونقيضه الهجاء والرثاء، كلها تدور في حلقة الحسب والنسب، وهو ما يعكس جلياً ما كانت عليه الحياة الاجتماعية آنذاك.
عاش العرب في شبه الجزيرة العربية، في الصحراء الجرداء، فلا ظل ولا خضرة ولا ماء.. وأحيانا في كنف الجبال وما تعكسه من الوعورة.،.كل هذه الطبيعة قد خلعت خصائصها على سكانها، وطبعتهم بطابعها الخاص الذي أهلهم لأن يتكيفوا معها ليعيشوا حياتهم..فلا خيار آخر أمامهم.
ومن هنا كان الارتحال ديدن القبائل العربية، فلامفر من تتبع الخضرة والماء وهي متغيرة دوماً، لا يستقر على حال لها شان.. فقد يكون هناك جدب يهلك الزرع والضرع، وقحط يضر البلاد والعباد.. وقد تمطر السماء بغزارة فتسيل الأودية وتخضر الأرض، وينعم بها الحيوان والإنسان.
ومن مفاخر العرب الاعتزاز بالقبيلة والأب والخال والعم، ويمدح المرء بأنه معمٌّ مخولُ، أي جمع المجد من طرفيه.
ولحكمة بالغة اصطفى الله سبحانه وتعالى، النبي محمداً صلى الله عليه وسلم، من قريش أعظم القبائل العربية ، جده عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف، ذروة الحسب والنسب، وبهذا فخر الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام بقوله: أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب. وقال : أنا أفصح العرب ، بيد أني من قريش.
وكان الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، يقول إذا رأى الصحابي سعد بن أبي وقاص: هذا خالي ، فليرني امرؤ خاله!!
وفي العصر الجاهلي كان للاعتزاز بالحسب والنسب ، شأن بلغ الذروة..فالشعراء والخطباء في أسواقهم يتبارون في الفخر بقبائلهم وأمجادهم..فهذا عمرو بن كلثوم يقول:
لنا الدنيا ومن أضحى عليها ونبطش حين نبطش قادرينا
إذا بلغ الفطام لنا رضيع تخر له الجبابر ساجدينا
ومن هو عمر أبن ام كلثوم ، كان من أعز الناس نفساً، وهو من الفتاك الشجعان، سادات تغلب، وهو قاتل الملك عمرو بن هند ملك المناذرة. وذلك أن أم عمرو بن هند ادعت يوماً أنها أشرف نساء العرب فهي بنت ملوك الحيرة وزوجة ملك وأم ملك فقالت إحدى جليساتها: "ليلى بنت المهلهل أشرف منك فعمها الملك كليب وأبوها الزير سالم المهلهل سادة العرب وزوجها كلثوم بن مالك أفرس العرب وولدها عمرو بن كلثوم سيد قومه" فأجابتها: " لأجعلنها خادمةً لي". ثم طلبت من ابنها عمرو بن هند أن يدعو عمرو بن كلثوم وأمه لزيارتهم فكان ذلك. وأثناءالضيافة حاولت أم الملك أن تنفذ نذرها فأشارت إلى جفنة على الطاولة وقالت " يا ليلي ناوليني تلك الجفنه" فأجابتها: لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها" فلما ألحت عليها صرخت: "واذلاه" فسمعها ابنها عمرو بن كلثوم وكان جالساً مع عمرو بن هند في حجرة مجاورة فقام إلى سيف معلق وقتله وقال معلقته المعروفة عن الحسب والنسب وعزة النفس .
وتقول الخنساء : وإن صخراً لحامينا وسيدنا وإن صخراً إذا نشتوا لنحارا.
وهذه اسماء ذات النطاقين أبنت ابو بكر رضي الله عنه تبدي شجاعتها وعزة نفسها وموقفها البطولي عندما أخذ أبنها عبدالله أبن الزبير رضي الله عنه براءها و مشوراتها فى أمر القتال حيث قال لها خذلوني الناس فماذا أفعل ولم يبق معى ألا اليسير ممن ليس عنده من الدفع أكثر من الصبر ، فما قولك:
فقالت له ذات النطاقين ـــ رضى الله عنها:
إن كنت تعلم إنك على حق وإليه تدعو فامضى له فقد قتل عليّه أصحابك
ولا تمكن من رقبتك من يتلعب بها غلمان بنى أمية
وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت أهلكت نفسك و أهلكت
من قتل معك ، كم تمنت ألسيدة أسماء ـــ رضى الله عنها
أن يموت ولدها شهيداً حيثكانت ذات النطاقين عندها من الشجاعة وعزة التفس مالا يوصف فقد كانت تحث أبنها وفلذت كبدها على الشهادة فى سبيل الله فلما قتل أبنها وصلب جاءت إلى الحجاج وهى عجوز طويلة عمياء فقالت له: أما آن للراكب أن ينزل ؟ فقال :المنافق ؟
قالت والله ما كان منافقاً فلقد كان صوماً قواماً براً.
قال الحجاج: أنصرفى يا عجوز فقد خرفت
قالت : لا والله منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: فى ثقيف كذاب ومبير (الكذاب هو المختار بن أبى عبيد الثقفى
وأما المبير أى المنافق فهو الحجاج)
هكذا كانت شجاعة أسماء بنت أبى بكر ـــ رضى الله عنها و رباطة قلبها رغم كبر سنها حيث تشاهد أمام عينها ظلم وجبروت وقلة حياء وسوء الأدب من الحجاج ولكنها تقطع لسانه البذى بفعلها وقولها الذي يقع مثل وقع الأسنة وقوة صبرها.
ومن ما قيل عن أختيار الزوجة ذات الحسب والنسب ، قول ابو زيد الهلالي لذياب أبن غانم عندما اراد الزواج من امرأة جميلة ولكن يعرف أنها من أصول ضعيفة جبانة فقال له ابو زيد وهو ينصحه بعدم الزواج من تلك المرأة بعد أن اعجب بجمالها ذياب أبن غانم :
ابوها واخوها ياذياب وخالها ،، جذوع موزاً داخل الماء قلوبها.
ولم يسمع ذياب أبن غانم نصيحة أبو زيد الهلالي له فتزوجها ، وقد طلعوا أبناءه جبناء اذلاء ، ولم يواجهوا المعتدين على والدهم بل هربوا عنه وتركوا اعداءه يقتلونه شر قتله .