فلسطين
يذكر الكاتب زهير عبدالمجيد الفاهوم في كتابه "فلسطين ضحية وجلادون" شيئا من الجرائم التركية العثمانية بحق فلسطين والشعب الفلسطيني، ويعقد فصلا بعنوان سفر برلك، ويذكر أن معنى الكلمتين التركيتين هو النفير العام، ثم يورد طرفا من المآسي التي عاناها الفلسطينيون وغيرهم بسبب القوات التركية التي تأخذ أرزاق وطعام الفلسطينيين غصبا عنهم فيقول: "ولا شك أن أخطر ما واجه سكان المنطقة من ويلات كان الواجب المفروض عليهم بإعالة القوات التركية المرابطة في المنطقة في الوقت الذي كانوا هم في أمس الحاجة إلى من يعيلهم ويكفيهم قوت يومهم. وزاد الوضع ترديا أن تلك القوات كانت هزيلة التموين ضئيلة الإمداد خاصة المواد الغذائية، وقد زاد من انهيار الأوضاع أن تلك القوات كانت تفتقر إلى الانضباط والطاعة. وكانت باكورة المصائب تعيين أحمد جمال باشا قائدا عسكريا وحاكما عاما للمنطقة بعد أن منحته الحكومة سلطات غير محدودة، فقام بإعلان الأحكام العرفية العسكرية والعمل بموجة أنظمة طوارئ". ويروي هارون هاشم رشيد في كتابه "إبحار بلا شطآن" كيف أجبرت السلطات العثمانية والده وعائلتهم وغيرهم من الفلسطينيين على مغادرة مدينة غزة أثناء السفر برلك.
لبنان
وحظيت لبنان بنصيب وافر من بؤس الحكم التركي آنذاك، ولعل كثيرا منا يتذكر فيلم سفر برلك، الذي أنتج في لبنان وصدر عام 1967، وهو من إخراج هنري بركات وكتابة الأخوان رحباني وبطولة النجمة والمطربة الشهيرة فيروز، والفنان إحسان صادق، ويحكي هذا الفيلم مأساة الشعب اللبناني مع الحكم التركي، ويروي الفيلم أن الأتراك يأخذون اللبنانيين بالقوة والإكراه للقتال والعمل سخرة عندهم، دون مقابل، ومن رفض منهم فيعاقب بسفر برلك، وهي النفي والطرد من لبنان. والفيلم يحكي قصصا حقيقية ومعروفة عند اللبنانيين وعند كثير من العرب الذين عانوا من ظلم وبطش بعض قادة وولاة الأتراك العثمانيين. يقول إميل شاهين في كتابه "التكوين التاريخي لنظام لبنان السياسي الطائفي" حول ذلك: "مع نشوب الحرب العالمية الأولى تابع المناضلون نضالهم ضد الطغيان العثماني خصوصا ضد فرض السلطات التركية نظام التجنيد الإجباري سفر برلك". ويقول فيصل القنطار في كتابه "عودة مهاجر": "نال لبنان برمته نصيبا عظيما من أهوال هذه الحرب وويلاتها، حيث فقد كثيرا من شبابه الذين جندتهم السلطنة العثمانية عنوة فيما كان يسمى سفر برلك، وعاش الناس خلال تلك الفترة حياة الفقر والجوع والتشرد". وفي كتابه "لبنان من دويلات فينيقيا إلى فيدرالية الطوائف" يقول الدكتور فهد حجازي عن الحكم التركي العثماني إن العرب لا يذكرون منه إلا السفر برلك، والجزية، وأسماء السفاحين مثل جمال باشا السفاح.
سورية
أما سورية فلا تقل معاناة أهلها مع الحكم التركي وجمال السفاح عن بقية إخوانها العرب، وتمتلأ المؤلفات والروايات والمسرحيات السورية بقصص كثيرة عن جرائم الحكم السابق، من سفر برلك، وسخرة، ونهب للخيرات، وظلم، وبطش، وغيره.
العراق
لم تسلم العراق من سفر برلك، فعانى العراقيون كإخوانهم العرب من سفر برلك التركي، يقول الشاعر العراقي الدكتور محمد مردان في قصيدة حرة له:
ولدي علي
عندما يتردد اسمك اللذيذ في مسامعي
أتذكر جدي الذي
ذهب إلى سفر برلك
ولم يعد
تضطرب البراكين في أعماقي
عندها أنظر إلى صورة أبي
وأجهش بالبكاء.
ويتحدث الأديب العراقي الشهير عبود الشالجي (1326- 1416هـ) في كتابه "الكنايات العامية البغدادية" فيقول: "سفر برلك كناية بغدادية عن أيام الضيم والهلاك، والكلمة تركية، سفر برلك، أي النفير العام، ويريد البغداديون بهذه الكناية النفير العام الذي أعلنته الحكومة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، إذ حشد العثمانيون الآلاف من الجنود العراقيين، وهم من خيرة شباب العراق، وسيروهم إلى جبهة القفقاس، حيث هلكوا جوعا وبردا، ولم يعد منهم سوى نفر يعدون على الأصابع"، ثم يشير أن سفر برلك جعلت في كل بيت عراقي مناحاة وحزنا.
الحوادث السابقة من نماذج لا تكاد تعد أو تحصى من معاناة العرب كل العرب من ويلات الحكم التركي العثماني عبر السنين. لم يكن الأمر وليد ظروف سياسية معينة، أو خاصا بفترة زمنية محددة، بل كان نمط حكم يغلب على سلاطين وقادة العثمانيين الأتراك، فمنذ وطئت قدما السلطان التركي العثماني سليمان خان الأول أرض مصر أواخر عام 922هـ والعذاب رفيقه، كان فيه وفي جيشه تعطش شديد للدماء، فأخذوا قتلا وسفكا بالمصريين بسبب ودون سبب، وقتلوا من العوام والفتيان من لا ذنب لهم، قتلوهم لأنهم رأوهم يمشون في الشوارع، في أربعة أيام قتلوا عشرة آلاف نسمة من أهل أحياء في مدينة واحدة، ويقدر أحد الباحثين عدد من قتلهم السلطان سليم وجيشه من المصريين بـ 200 ألف نسمة، بينهم نساء وأطفال، أما السلب والنهب فحدث ولا حرج، فقد كان الجيش العثماني التركي يدخل بيوت المصريين فيسرق كل ما فيها. هذه المأساة، هذا المشهد الدرامي الحزين يرويه المؤرخ الشهير ابن إياس الحنفي (852- 930هـ) في الجزء الخامس من تاريخه الموسوعي الضخم عن مصر "بدائع الزهور في وقائع الدهور"، وهو معاصر للحدث وشاهد عيان على تلك الأحداث. وينقل الباحث عبدالرحمن مقلد عن ابن إياس الحنفي نصوصا تدل على معاناة لا نظير لها عاناها أهل مصر بسبب السلطان التركي سليم خان، مثل قول ابن إياس: "لم يقاس أهل مصر شدة مثل هذه"، ووصل الأمر لوصفه أنه وقع فيها مثل ما وقع من جند هولاكو في بغداد، وفى موضع آخر يقول ابن إياس: "وقع في القاهرة المصيبة العظمى التي لم يسمع بمثلها فيما تقدم"، وقوله: "من حين فتح عمرو بن العاص مصر لم يقع لأهلها شدة أعظم من هذه الشدة قط". وقوله: "إن ابن عثمان انتهك حرمة مصر وما خرج منها حتى غنم أموالهم وقتل أبطالها ويتم أطفالها وأسر رجالها وبدد أحوالها"، ويذكر ابن إياس أن سليم خان كان رجلا سيئ الخلق سفاكا للدماء شديد الغضب. ونقل عن السلطان العثماني سليم خان الأول أنه قال "إذا دخلت مصر أحرق بيوتها قاطبة والعب في أهلها بالسيف".
الحرمان الشريفان والجامع الأزرق
كانت المدن التركية مليئة بالقصور الفارهة والمباني الجميلة، أما المدن العربية فلم تحظ بعشر معشار ما حظيت به مدن تركيا، بل إن بعضها أهملت إهمالا كاملا، مع أن المدن العربية والتركية كانت آنذاك خاضعة للحكم التركي العثماني. الصور القديمة والرسومات ومشاهدات الرحالة كلها موجودة شاهدة على ذلك. كل هذا قد نغض الطرف عنه ونتسامح رغم ما فيه من ظلم، ولكن أن يُهمل الحرمان الشريفان في مكة المكرمة والمدينة المنورة من قبل السلطان التركي العثماني الذي نصب نفسه سلطانا على المسلمين، ولقب نفسه بخادم الحرمين، فهذا ما لا يمكن التجاوز عنه أو التسامح، خاصة إذا علمنا أن هؤلاء السلاطين قد بنوا في المدن التركية أفخم المساجد على وجه الأرض. لو نظرنا إلى صورة الجامع الأزرق، جامع السلطان أحمد في إسطنبول، الذي بني قبل أربعة قرون، ثم نظرنا إلى صور الحرمين الشريفين أيام الحكم العثماني التركي لعرفنا تماما ما الذي يعني هؤلاء السلاطين، فمساجد وجوامع تركيا في غاية الروعة، أما الحرمان الشريفان فقد أهملوهما رغم مكانة الحرمين العظيمة في الإسلام وفي قلوب المسلمين.