الثبات حتى الممات هو شعار علماء الأمة الربانيين، الذين لا يتنازلون عن الحق، ولا يحيدون عنه قيد أنملة، مهما تقلبت بهم الأحوال، وعظمت عليه الخطوب؛ فهم حماة الدين، وحراس الشريعة، وجند الحق، يعلمون أن أعظم المهام المنوطة بهم هي الحفاظ على معالم الدين، والتصدي للمبتدعين، ومواجهة كل دخيل ومدعٍ بريد أن يحرّف مفاهيم القرآن والسنة؛ فكم من عالم رباني قضى نحبه تحت سياط الباطل، وفي سجون الطغاة، من أجل ثباته على الدين، ومحافظته على الحق، وكم من عالم طورد وشرد هو وأهله من أجل أنه لا يداهن ولا يجاري، وكم من عالم، وطمس تاريخه، وشوهت سيرته بين الناس، لأنه آثر مرضاة الله عز وجل على مرضاة المضللين والمحرفين، وهؤلاء العلماء كلهم شعارهم في الحياة قوله عز وجل: ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب: 23]، وصاحبنان هذه المرة واحد من علماء الأمة الربانيين الذي كانت حياتهم وخاتمتهم مثلا حيًا وواضحًا، وترجمة حقيقية لمعنى هذه الآية الكريمة.
التعريف به:
هو الإمام العلامة الحافظ الأوحد، شيخ الأندلس والمغرب، وفريد عصره، شيخ الإسلام، القاضي عياض بن موسى بن عياض بن عمرو اليحصبي الأندلسي ثم السبتي المالكي، وُلد 476هـ بمدينة سبتة المغربية (وهي ما زالت واقعة حتى الآن تحت الاحتلال الإسباني)، وكان جده عمرو قد هاجر من الأندلس إلى المغرب أيام ملوك الطوائف، وسكن مدينة سبتة، وبها وُلد القاضي عياض.
لم يحمل القاضي عياض العلم في الحداثة كعادة كبار العلماء، بل طلبه بعد أن جاوز العشرين، وكان أول سماعه وطلبه للعلم إجازة مجردة من الحافظ أبي عليَّ الغسَّاني، ثم رحل إلى الأندلس سنة 503هـ، وسمع من شيوخها وعلمائها، وانقطع لطلب العلم، فاستبحر من شتى العلوم: الحديث والفقه، وعلوم اللغة، وتمر فيها حتى فاق معاصريه وشيوخه، وبذ الأقران، وجمع وألف، وناظر وأفتى، وسارت بتصانيفه الركبان، واشتهر اسمه في الآفاق، وتولى منصب القضاء في بلده سبتة مدة طويلة، حُمِدَتْ فيها سيرته، ثم نقل عنها إلى قضاء غرناطة، ومن شدة أهليته للمنصب ارتبط واقترن اسمه بقلب القاضي؛ على الرغم من صغر سنه، فلقد تولى القضاء وله خمس وثلاثون سنة فقط.