يشهد الخليج انقساماً حاداً ومؤسفاً، حتى وإن لم يتجلى بعد بمواقف سياسية رسمية، إلا أن المعركة الإعلامية تشي بأن تحت السطح جمراً مشتعلاً.
طرفي الانقسام البادي للعلن هما الإمارات من جهة ومعها بعض الأطراف الإعلامية في السعودية هم أقرب للمزاج والأجندة الإماراتية، وقطر من جهة أخرى. وهذا الانقسام ليس جديداً بالطبع، حتى وإن هدأ لفترات طويلة في العلن، إلا أنه متجدد ويتشكل بمظاهر عديدة دوماً. وأبرز أسبابه هو الخلاف في طبيعة تعاطي كلا الطرفيين مع ملفات الإسلاميين والربيع العربي وحكومة السيسي في مصر، وسوا ذلك من موضوعات.
بعد منتصف ليلة الإربعاء المنصرم شنت وسائل إعلامية عديدة "قنوات العربية وسكاي نيوز والإخبارية، ومعظم الصحف السعودية وحساباتها ب" حملة عنيفة ومتزامنة على قطر بسبب تصريح مثير للجدل منسوب لأميرها نُشر على موقع وكالة الانباء القطرية، سرعان ما أعلنت قنوات قطرية عديدة أن التصريح مُفبرك وأنه نتيجة اختراق إلكتروني لموقع وكالة الانباء الرسمية، وقامت بنشر فيديو كامل للحفل العسكري الذي ذكرت المادة المفبركة أن خطاب الأمير أُلقي فيه، واتضح أن الحفل لم يتضمن أي خطاب للأمير.
بدا واضحاً لأي مشتغل بالسياسة والإعلام - حتى قبل صدور النفي - أن الخطاب المذكور مثير للريبة والشك، فهو يحمل لغة هجومية هي خارج سياق اللغة السياسية القطرية المعتادة، وأنه تضمن عدداً من التناقضات الفاقعة في المواقف يمكن لأي طالب مبتدئ في السياسية أن يكتشفها.
ورغم وضوح الاختلاق، ثم صدور نفي قطري عبر عدة منابر، إلا أن الهجوم الإعلامي استمر وبوتيرة متصاعدة.
لا يبدو صعباً الاستنتاج أن الجهة التي قامت بالاختراق وفبركة الخطاب هي من داخل المطبخ الذي أدار هذه الحملة الإعلامية التي بدا بوضوح أنها مُعدة سلفاً وانطلقت بعد دقائق معدودة من نشر الخطاب المفبرك، وكان مقدمو البرامج متأهبين والضيوف على الهواتف مستعدين والتقارير التلفزيونية مُعدة والصحف جاهزة بالمانشيتات والمقالات والكاريكاتيرات - رغم أن الموعد المعتاد لطباعة هذه الصحف يسبق الموعد الذي نُشر فيه الخطاب المفبرك -، وهو ما يشير إلى قلة احتراف هذا المطبخ السياسي، الذي فشل من ناحية في فبركة خطاب مقنع وخالي من التناقضات، وأخفق من ناحية أخرى في تنسيق حملة الهجوم التي بدأت بزخم وتنسيق واستعداد واضح، الأمر الذي يصعب معه ادعاء العفوية.
الفقر الواضح في ذكاء الجهة التي أعدت هذه الحملة جعلها تقع في تناقضات فجة، فهي من ناحية تدعي أن قطر تتقارب مع ايران، وفي نفس الوقت هي تدعم في سوريا أكثر الفصائل الإسلامية شراسة ضد إيران ميليشياتها، وأيضاً هي أكثر دولة خليجية تدعم السعودية ميدانياً وسياسياً وإعلامياً في معركتها ضد المحور الإيراني في اليمن دون أن يكون لها أجندة تقسيمية ومصالح خاصة .. كما تدعي هذه الحملة أيضاً أن لقطر علاقة جيدة مع اسرائيل، وفي نفس الوقت هي تدينها لكونها أكبر داعم ومحتضن لحركة حماس!
ترافق مع هذه الهجوم الإعلامي حملة ابتزاز وتخوين باسم الوطنية لكل من تساءل أو تحفظ على هذا الهجوم، أو أكد على فبركة الخطاب. فالمطلوب عند هؤلاء إما أن تنخرط معهم في هذه الحملة - التي لم يصاحبها أي موقف رسمي - وإلا فالاتهامات بخيانة الوطن والانحياز للأعداء (وهم هنا قطر وإيران وإسرائيل وحماس والإخوان المسلمين) جاهزة ومعلبة.
الكوميديا السوداء فيما حصل تجلت في أن جميع الشخصيات التي كتبت وعلقت وتحدثت وانخرطت في هذه الحملة تحت لافتات وطنية، كانوا أول الصامتين والداعين لغض الطرف عن الهجوم المتكرر على الحكومة السعودية والشعب والمجتمع - وبكلام عنصري وشتائم بذيئة - من قِبل مجموعة إعلاميين مصريين محسوبين على النظام .. وهم أيضاً يتوارون خجلاً ولا ينطقون بكلمة أمام الانتهاكات والتهديدات المتكررة التي مارستها السلطات الإماراتية (استهداف طائرة عسكرية سعودية، تبني ودعم مشروع تقسيم اليمن، رفض دعم المقاومة في تعز بحجة أنهم ينتمون لحزب الإصلاح، تبني وتمويل مؤتمر جروزني الذي نزع الشرعية عن المرجعية الدينية السلفية السعودية، وسوى ذلك) رغم أن بعضها يضرب ويهدد صُلب الأمن الوطني السعودي.
اللافت أيضاً لأي متابع جيد لمعظم الهاشتاقات التي نُشرت في السوشال ميديا والمتفاعلون معها وجود انفصال كامل وتضاد بين المزاج الشعبي السعودي وبين وسائل الإعلام، فرغم زخم هذه الحملة كان غالبية الناس ممن يرفضون تصديق هذه الفبركات ويعرفون دوافع هذه الحملة. ويمكن لأي متابع لما كُتب في حول هذا الموضوع أن يصل لنتيجة مفادها: أن الإمارات فازت بدعم المرتزقة والأذرع الإعلامية واللجان الإلكترونية، فيما فازت قطر بتعاطف الناس وثنائهم بسبب مواقفها السياسية المشرفة. وسبحان من جعل المزاج الشعبي السعودي يقف على التضاد دوماً مع ما تتبناه قناة العربية، حتى ظننتُ أن القناة لو خرجت غداً لتمدح حركة حماس لشتمها الشعب السعودي.
أعتقد أن السعودية تعي أن الانقسام الخليجي يصب في صالح إيران دون شك، وأن تعميق الهوة بسبب وجود خلاف في إدارة ملفات تقع خارج الخليج هو ارتهان لأجندة إماراتية معنية بمصالحها الخاصة وصراعاتها الأيديولوجية ولو كانت على حساب وحدة الخليج وتماسكه وأمنه.
في المقابل، على قطر أن تضع اعتباراً لطبيعة العلاقة ذات الحساسية المرتفعة بالسعودية، مع وجود متربصين كُثر يسعون لنفخ نار الخلاف بين البلدين، وأن تطلب من عدد من المنابر الإعلامية التي تقوم بتمويلها - كموقعي عربي21 ونون بوست - أن يراعوا حساسية هذه العلاقة، وأن يُخفِّضوا من السقف النقدي المرتفع تجاه السعودية ، أيا كانت خلفياته ، لأن ذلك سيفتح المجال لاستثمار ذلك سلبياً من الأطراف التي تسعى دوماً لدق أسفين بين البلدين وتأجيج الخلاف.
وفي الختام لابد من التأكيد على أنه يمكن تسجيل ملاحظات عديدة على السياسة القطرية. إلا أنه زمنٌ رديءٌ هذا الذي يكون فيه أكبر انتقادٍ لدولة عربية أنها الوحيدة التي بقيت تدعم حركة حماس، حين تخلى عنها جميع العرب