سيداتي سادت المتابعين لقصص الكاتب عاشق القمراء ، الليلة حكايتنا هي حكاية رواها لي أحد الأصدقاء كان دليل لنا في أحد رحلاتنا للصيد في أحدى الدول العربية ، حيث نزلنا بمخيمنا في أحد الأودية ، ويقع ذلك الوادي بين جبال عظيمة الأرتفاع ممتلئة بالأشجار والأنهار ولكنه خالي من الناس .
وبعد أن بيننا خيامنا وجهزنا مكاننا ، وبداء الليل علينا في الدنو والأقتراب ، كأنه إكتساح ضباب لروس هضاب ، وعم الظلام وبداء البرد يدخل في العظام ، حيث كنا في أحد ليالي الشتاء شديدة البروده ، فكل واحد منا قد ألتف بلحافه وغطى راسه ووجه حتى أختفت أوصافه ، وقد أوقدنا ناراً تتلظاء بين زرابي في أرض فضاء ، فطاب الحديث والسمر ، وقد أطل علينا جزء من القمر من أعلى جبل وكأنه ينظر الينا بالمقل في خجل يريد ان يسترق أحداث قصة خوينا لنا ، ثم مالبث ان طلع فصرنا نشاهده ويشاهدنا ، وكانت السوالف تدور بيننا بالدور ، حتى وصل الدور الى خوينا ودليلنا أدريس ، فقال لنا :
كان يعيش في أحدى القرى رجل أسمه سعيد صاحب بقالة لبيع الخضار، فكان يبيع على أهل القرية من الخضار، ويقتات هو وعائلته من ذلك ، وكان غرف بيته متهالكه وتسمى من باب المجاز داراً ، وحولها ركام من الأنقاض ، وهي في حقيقتها غرفتين واحدة يقيم فيها سعيد وزوجته وأبناءه و يطبخون فيها وينامون بها ، بينما في الغرفة الاخرى تعيش والدة سعيد واخواته .
وكان سعيد يفتح بقالته من الصباح الى وقت الغروب ، وإذا ماعاد سعيد إلى داره بعد غروب الشمس ، ومعه الخضرة واللحم والخبز تستقبله العائلة كلها بالفرح ويتناولون منه مابيديه من طعام ، ويهرعون إلى القدر لأعداد العشاء .
ولم يكن في كل يوما يحضر اللحم ، فاذا كان مبيعه اليومي رابحاً أستطاع أن يشتري لحماً ، وإلا فعشاء عائلته من بقايا ما كسد من خضرة محله ، وكانت تلك العائلة تسكن إلى جوار أحد أقاربي ، فنحن أصلنا من هذه المنطقة ، وكان ذلك الرجل يعطف على تلك العائلة ويزورها بين حين وآخر ، و كثيراً ما حدثني عن عائلة جاره فيقول لي
لم أر في حـياتي عـائلة سعيدة مثل هذه العائلة ، ولم أراء فـرحـا غامراً كالفرح الذي تعيش في عائلة سعيد عندما يعود لهم من عمله مساء ، فكانت تستقبله العائلة كلها ، ثم يبدأ عملها الـدوؤب في إعـداد العشاء ، فـاذا نضج الطـعـام بـدأوا بتناوله من إناء كبير فـاذا انتهـوا من عـشـائهم حمـدو الله وشكـروه ، وأكـثر من حمـده وشكـره ، ثـم آووا إلى فـرشهم الخلقة البسيـطة فـرحين قـانعـين ، شاكرين الله على السـتر والعافية .
وفي يوم من الأيام ، كانت العائلة تنتظر رجلها مساء على باب الدار ، فاذا بهم يرون بعض الرجال يحملون نعشاً ، فلما تبين للعائلة الأمر وجدت عائلها الوحيد هـو المحمول في النعش .
وكان سعيد قـد أغـلـق محله ، وقصد القصاب المجاور فاشترى لحماً ، وقصد الخباز القريب فـاشـترى خبزاً وحمل بقـايا خضرته من دكانه ، فلما أراد عبور الشارع دهسته سيارة طائشة ، فمات الرجل فوراً ، وتبعثر ماكان معه من زاد .
وتجمع الجـيران حـول النعش ووضعوه في المسجد ، وقد حل عليهم الظلام , وجمعوا من أغنيائهم بعض المال , وانفقوا على تجهيز الجثة الهامدة بعض ما جمعوه , وقدموا ما تبقى من مال زهيد إلى العائلة , وفي صباح اليوم التالي واروا الفقيد إلى مقره الاخير.
وكان أكبر أولاد سعيد أسمه مصطفى , يدرس في الصف الثاني في المدرسة المتوسطة ويبلغ من العمر خمسةعشر ربيعاً ، وبعد شهر من موت والده , نفذ آخر ماجمعه الجيران من مال للعائلة ,فقصد مصطفى محل والده ، وبدأ يعمل فيه ليعول أمه و إخواته الصغار وعماته وجدته ، وكان يعود كل يوم بعد غروب الشمس كما كان يفعل والده ... ولكن الأبتسامات غابت إلى غير رجعة.. والفرح مات إلى الأبد .. والبيت صار كانه مقبرة ، وكان الطعام الذي تتناوله العائلة ممزوجاً بالدموع.. لقد دفنت العائلة سعادتها مع فقيدها الحبيب..
مـرت الأيام ثقيلة بطيئة ، ودار الـزمن دورته ، فـانقضت ثـلاث سـنوات ، و استكمل مصطفى ثمانية عشر من عمره ، وإجتمعـت العـائـلـة تتـداول الرآي بعد أن تم قبول مصطفى في قوات الجيش وأن طارق لابد أن يترك مدرسته ويمسك محل أخية في دكانهم ، وأنه إذا لم يفعلوا ذلك فمن يعيلهم ؟
تم قبول مصطفى في قوات الجيش وبداء في التدريب ، ولكن المدرب العسكري يلاحظ مصطفى فيجد فيه ذهولاً وإنصرافاً عن التدريب ، فكان ينصحة تارة ، ويعاقبه بالتعليم الاضافي تارة أخرى .. ولكن دون جدوى .
لقد كان مصطفى حاضراً كالغائب ، وكان جسمه فقط مع زملاءه الجنود في التدريب ، ولكن عقله كان بعيداً .. بعيداً .. هناك عند عائلته.
فاستدعاه المدرب يوماً ، وسأله عن مشكلته ، ففتح له قلبه وأخـبره بأمره ، فبادله المدرب الانسان حزناً بحزن وأسى بأسى ، وكف عن ملاحقته في أمر اتقان التدريب . وعرض المدرب مشكلته على آمر الفصيل ، فأمر بتعيينه في مطبخ الجنود ليغسل القدور ، ويقطع اللحم ، ويوقد النار ، ويوزع الطعام........