تراه في المجالس متشدّقا متصدّرا الكلام عن "الناس"، ويطلّ عليك من نوافذ "الواتس آب" وشبكة "" متفيهقا طعّانا وأحيانا تراه "يتسدّح" في الاستراحات وهو يمارس مهمته بلا كلل أو ملل. هذا هو "مفتِّش النوايا" الذي لم تدرج مهنته بعد في خانة تعريف الشخصيّة. و"مفتِّش النوايا" يعلم كل بواطن الأمور ومقاصد الكلام. وحين تبدي استنكارك وعجبك مما يقول عن شخص يعرف الناس فضله وقدره "يسبّل" عينيه متكلّفا العمق والحكمة ثم يردّد عبارات مثل "جاك العلم" ثم يتبعها بعبارة "وأبرأ إلى الله" أن أضع في ذمتي شيئا!
ولا يقتصر دور "مفتِّش النوايا" على الناس بل يمتد إلى معظم نشاطات المؤسسات وقراراتها فحين يصدر قرار رسمي محدّد الهدف يأتيك "مفتِّش النوايا" هامسا "تدري وش قصدهم" ثم يأتيك بتفسيرات عجيبة غريبة. وهو لا يكتفي بسرد خلفيّات هذا القرار ونوايا من أصدره وتفسيراته بل ويروي قصصا محبوكة من مطبخ القرار الذي لا ينتمي إليه ولا يعرف أحدا من فريقه.
ومن أعاجيب أحوال "مفتِّش النوايا" أنّه لا يكتفي بممارسة مهنة الهمز واللمز وتفتيش ومحاكمة النوايا بل ويصرّ على أن ما يفعله هو من باب "التناصح والتحذير". وحين "تناصحه" أنت عن مغبّة الحكم على السرائر وأنّه قد يظلم الناس نتيجة خطأ تفسيره، يبتسم ابتسامته الخرقاء المعهودة قائلا وماذا عن "فراسة" المؤمن. وليست المشكلة في أنّه يزكي نفسه فأمره إلى الله وإنما في امتداد ضرر أحكامه وتفسيراته وتأثيرها على الآخرين.
أذكر حوارا ساخنا مع أحدهم بعد أن خاض وأفاض في سيرة فاضل كريم وكنت أحاول تذكيره بأهميّة عدم التعجّل في الحكم على الناس وأنّ موعد تحصيل ما في الصدور لا يملكه إلا الله وأن الوعد بأمر الله في يوم الحساب. فردّ دون تمهل وهل نترك فاسدي النوايا يعيثون فسادا فقلت له نحن موكلون بفاسدي العمل أما النيّة فحسابها على الله. وكان مما قلت لـ "مفتِّش" النوايا هذا إن العلماء مصنّفي كتب الفقه القديمة خصصوا أبوابا للتحصين من هذا البلاء بعناوين مثل: "إجراء أحكام الناس على الظاهر وسرائرهم إلى الله تعالى" فقال لي: في تلك العصور كان كبار الناس أهل فضل فصنّف العلماء كتبا تحمي جنابهم أمّا اليوم فأين أهل الفضل؟
قال ومضى:
صنّفَ كل الأبرياء من حوله إلى فريقين؛ ولمّا أراد الجلوس لم يجد مكاناً بينهما..