تحدث اليوم المهندس شريف إسماعيل رئيس الوزراء معلقا على كارثة تسمم التلاميذ في المدارس بسبب وجبات فاسدة وزعتها جهة غير معروفة حتى الآن ، وقال ـ لا فض فوه ـ إن هذه الوجبات المدرسية تكلفنا حوالي مليار ومائتي مليون جنيه سنويا ، وأنه لا تفكير في تعويضها ببدل نقدي ، تصريح رئيس الحكومة يكشف عن حالة من برود الأعصاب يحسد عليها ، فالرجل لا يشغله حياة مئات الآلاف من التلاميذ ولا صحتهم ولا ما يحدث لأهاليهم إن أفضت إصاباتهم للموت ، رئيس الوزراء لا يعنيه قضية فساد ضخمة تسببت في تسمم مئات التلاميذ من الأطفال والصبية وتحويلهم إلى المستشفيات لمحاولة إنقاذ حياتهم ، فقط كل ما كان يشغله أن الوجبة "المسممة" تكلفه مليار ومائتي مليون جنيه ، وهي إشارة قصد بها صياغة صورة العبء المالي على الدولة ، وأن الحكومة "تضحي" بهذا المبلغ من أجل توفير وجبة بسيطة للتلاميذ ، ومع ذلك "مش عاجبكم" ، والحقيقة أن هذه الطريقة تكررت كثيرا في العام الأخير من شريف إسماعيل ووزراء آخرين وحتى قيادات رفيعة أخرى ، في المواصلات نحن نتحمل كام مليون جنيه خسائر سنوية ، في توفير رغيف الخبز نحن نتحمل كام مليار جنيه ، وفي الغاز الطبيعي نحن نتحمل كام مليار جنيه ، وهي طريقة في المن والإهانة لكرامة المصريين يصعب أن تجد مثلها في أي دولة أخرى ، حتى في العالم الثالث ، وتبدو تلك التصريحات كما لو كان المسئول من هؤلاء ينفق علينا من "جيب أبوه" ، وليس كونه مال الشعب ينفق منه على الشعب ، وأن دوره هو ينحصر في إدارة مال الشعب ، والذي هو ناتج جهد الشعب المطحون وعرق جبينه وضرائبه ، وأن راتب الأخ شريف إسماعيل وحرسه وراتب وزرائه وراتب رئيسه إنما يدفعه الشعب ، صاحب الفضل الوحيد في هذا البلد على الجميع ، مؤسسات وأفراد ، أيا كانت وأيا كانوا .
الأسوأ من تلك الطريقة التي يتحدث بها المسئولون عن إنفاق الدولة في المصالح المختلفة ، أن المعلومات غائبة ، والحقيقة ضائعة ، وبالتالي يفتقر كلام المسئول إلى أي قيمة أو جدوى ، سوى التضليل والتلاعب بالعقول ، ففي الحديث عن مترو الأنفاق الذي ضاعفوا قيمة تذكرته قبل أيام ، قالت الحكومة أن المترو يخسر عدة ملايين ، وأنه بحاجة إلى رفع تذكرة المترو لتغطية الخسائر ولكي يتسنى لنا إمكانية الصيانة والإصلاح ، في حين أن خبراء طرق وهندسة أثبتوا أن المترو يربح ولا يخسر ، حتى مع الوضع في الحسبان قيمة الصيانة والإصلاح ، وعبثا تحاول أن تصل للحقيقة ، لا توجد أي جهة رسمية تعطيك أرقاما دقيقة ، ولا يجرؤ أي مسئول أن يقول الحقيقة ، ولا يمكن لأي إعلامي أو صحفي أن يحصل على المعلومات الدقيقة لكي يقارن ويوضح للرأي العام ، رغم أن الدستور يكفل له ذلك ، لكن الدستور شيء ، والواقع شيء آخر ، هذا فضلا عن أن المواصلات العامة ، هي جزء من مسئولية الدولة في الرعاية وحماية الحد الأدنى من وسائل الحياة ، مثل رغيف الخبز ، والدولة مطالبة بتوفيره بأسعار تناسب متوسط الأجور التي تمنحها للمواطنين ، والذين يقيسون سعر تذكرة المترو هنا بدول أخرى ـ مثل بريطانيا أو سويسرا ـ مضللون ، لأن متوسط الأجور في تلك الدول يمثل عشرين ضعف متوسط الأجور في مصر على الأقل .
الوعي المغلوط بدور الدولة ، وقيمة الإنسان ، المواطن ، فيها ، لم يعد وقفا على العامة والدهماء والأميين والجهلة ، الذين يتصورون أن رئيس الدولة أو الحكومة هي التي تطعمهم وتسقيهم وتنفق عليهم ، بل تلك الأغاليط أصبحت ساكنة في وعي المسئول نفسه ، مضافا إليها قدرا من العنجهية والغطرسة واحتقار المواطن .