معدل عمر الإنسان الافتراضي سبعون عاما. يقضي منها ثلاث عشرة سنة في الطفولة وسبع سنوات في المراهقة والتحصيل. في كلا العمرين يكون المرء غير منتج وعالة على الآخرين.
بعد الستين يكون في إحدى حالتين؛ إما صحيح البدن ونشط أو عليل يعود مرة أخرى إلى الآخرين يتكئ عليهم. قابلت طبيباً(مسيحياً) أندونيسياً مخلوطاً بصيني. طويلاً عريضاً يشع وجهه بالشباب والتطلع. مع السواليف عرفت أن عمره سبع وستون سنة. اندهشت. لم تقبله كندا كطبيب ممارس(بسبب شهادته وليس عمره) فاضطر أن يعمل معالجاً فيزيائياً. بدأ عمله قبل سنتين فقط. تخيلت أن سعوديا يهاجر من بلد إلى بلد لكي يبدأ حياة جديدة في الستين!
كنت أعمل في الاتصالات. أعلنت الاتصالات أنه يحق لكل من تجاوز عمره الأربعين أن يحصل على تقاعد مجزٍ. ركضت لكي أكون أول واحد. خفت يهونون .أريد أن أركض في الحياة حرا من رئيس ومدير. اتصل بي صديق و هنأني وقال قبل أن ينهي المكالمة: أجل إن شاء الله بتتفرغ للراحة والتأمل. لا أعرف ما الذي يعنيه بالتأمل، ولكني اعرف التعبير. صديقي بسيط وتفكيره محلي صرف يعبر عن الحقيقة الجوانية للمجتمع. ينصح أن أطلق الحياة و أتحول فورا إلى درويش. قلت له يا أخي حرام عليك ما زلت في الأربعينات من عمري. بقي لي خمس عشرة سنة على التقاعد الرسمي وبقي لي بعد التقاعد سنوات طويلة علي أن أعيشها. فقال: يا أخي تخلصتا من الغثى والمشاكل مع الناس تفرغ لربك.
يفهم المرء من حوار كهذا أن حياتي السابقة المليئة بالعمل والشباب والحيوية ليست سوى خطيئة. علي الآن أن أتفرغ للدروشة والتسكع. أيقظتني نصيحة صديقي على ظاهرة ثقافية اجتماعية. كنت أعتقد أنها حكم على النساء فقط. في مفهوم العوام ينتهي عمر المرأة الافتراضي بعد الأربعين. وظيفة المرأة في ثقافتنا هي التزاوج والإنجاب فقط. كل وظيفة أخرى تقوم بها المرأة تعتبر تعدياً وخروجاً على فطرتها: تلك الفطرة العجيبة التي اخترعها إخواننا الدعاة.
نصيحة صديقي تأتي في سياق آخر ذكوري ولكنها تمتاح من نفس الوعي. الرجل يحق له العمل ولكنه محكوم بالخطيئة. عليه في سنوات عمره الأخيرة أن يتفرغ للعبادة لعله يكفر عما سبق. العمل والانجاز وصراعات النجاح والفشل ليست سوى حالات طارئة على حقيقة الحياة. القصف والمرح والضحك العالي والأناقة والإحساس بالحرية الفردية هي خطايا يتسامح الناس بها مع الشباب فقط ويغفر لهم إذا تجنبوها في وقت مبكر. ليس غريبا أن يتخلص الشاب في بلادنا من شبابه في أواخر العشرين. ينتقل من الحياة العلنية إلى الخفاء. ينتظر بلوغه الأربعين لكي تصبح الحياة في حكم المنتهية. من العيب أن ترى مجموعة رجال في الأربعين أو الخمسين من العمر في مطعم مفتوح يلبسون شورتات
ويتضاحكون وينكتون أو يقتنون أجهزة حديثة. الحياة في الواقع ليست سوى (عبره). معبر يمر منه الإنسان بأسرع وقت ممكن. كل تأخر في هذا المعبر هو تحميل مزيد من الأخطاء. الرجل والمرأة محكومان عليهما أن يتوقفا في سن الأربعين. انطفاء المرح وحب الحياة يعني انطفاء الطموح وتوقف البناء. إذا كان هذا هو جوهر مفهوم الحياة فكيف يمكن أن نكون شعبا منتجا.