هناك طرق عديدة لانتقال الأمراض من شخص إلى آخر، فمنها ما ينتقل عن طريق الفم أو النفس أو البراز أو الدم لتستقر في المكان التي يناسبها في جسم الشخص السليم. ومن ضمن هذه الأمراض ما يعرف بالتهاب المعدة بجرثومة الهيليكوباكتر ( جرثومة المعدة) والتي شاع صيتها في الفترة الأخيرة. كثير منا ربما لا يعرف ما تلك الجرثومة؟ وكيفية الإصابة بها؟ وطرق علاجها، بيد أن الدكتور مازن كمال حميد استشاري أمراض الباطنية والجهاز الهضمي والمناظير في مركز الدكتور سليمان الحبيب الطبي طرق أبواب تلك الجرثومة وكيفية علاجها. إلى التفاصيل:
ما المقصود بجرثومة المعدة؟ جرثومة المعدة هي جرثومة شكلها حلزوني لها أربعة إلى ستة استطالات (سياط) بأحد نهايتيها وتتلون بالأحمر بصبغة الغرام، تأتي عن طريق الفم عادة لتستوطن الغشاء المخاطي للمعدة، مقاومة الوسط الحامضي لها، ومحدثة التهاباً في جدار المعدة أو الإثني عشر.
دكتورمازن .. من المعروف أن الوسط عالي الحموضة يقتل الجراثيم فكيف لهذه الجرثومة أن تعيش في هذا الوسط؟ كان يعتقد أن المعدة معقمة وممنعة ضد استيطان ومكوث الجراثيم فيها نظراً لوسطها الحمضي العالي، حيث تفرز المعدة يومياً نحو نصف جالون من العصير المعدي المؤلف أساساً من حمض كلور الماء المركز وأنزيمات هاضمة. وتستطيع المعدة أن تحمي نفسها بواسطة الطبقة المخاطية الثخينة المغلفة لها من الداخل. ونظرياً فهي وسط قاتل للجراثيم ولكن جاءت هذه الجرثومة وغيرت القاعدة، حيث استطاعت أن تخترق هذا الجدار المخاطي (بواسطة الأسياط وأنزيمات خاصة) وتكون بعيدة نوعاً ما عن وصول الحمض إليها، وفي حال وصلت أية كمية من الحمض لحدودها فإنها تحمي نفسها بخلق وسط قلوي حولها تماماً بواسطة أنزيم خاص بجدارها وهو يورياز حيث يحول اليوريا (المادة الإضافية الموجودة في المعدة والآتية من اللعاب إلى بيكربونات وأمونيا) وهو الأساس الذي يعادل الحمض الواصل للجرثومة فيحميها من الإبادة.
وهل يقف الجسم عاجزاً في هذه الحالة أمام هذه البكتيريا أم أنه يقاوم وجودها؟ إن الجسم يقوم وبشكل عام عند دخول أي جراثيم بدفاعات روتينية عبر جهازه المناعي الخلوي والخلطي، حيث يرسل خلايا بيضاء (خلاياT القاتلة) ويصنع مضادات أجسام نوعية ضد الجرثومة ولكن هذه الدفاعات تبقى غير قادرة على الوصول إلى الجرثومة نظراً لانغراسها ضمن الطبقة المخاطية السميكة والتي تعتبرها الجرثومة غذاءً لها وتؤدي إلى التهاب سطح المعدة ما تحت المخاطية ومن ثم تحدث قرحة بنسبة عالية. قد لا تكون الجرثومة هي المسؤولة بشكل مباشر عن تشكل القرحة ولكن الحدثية الإلتهابية الحادة لطبقة المعدة تحت المخاطية وارتشاحها بالخلايا الإلتهابية والتخريش الحادث مسؤول عن إحداث القرحة.
وكيف لهذه الجرثومة أن تنقل العدوى بين الناس؟ حقيقة إن هذه الجرثومة تنتقل من خلال عدة طرق منها عن طريق الطعام والشراب الملوث بهذه الجرثومة ويأتي التلوث عبر براز مصاب بها. وكذلك من الممكن أن تنتقل في الشخص نفسه من المعدة إلى تجويف الفم عبر ارتداد سوائل المعدة إلى المريء فالبلعوم أو بواسطة التجشؤ حيث تنتقل إلى تجويف الفم وبذلك تنتقل من شخص لآخر بتماس اللعاب المصاب. هذا في حالة كون المريض بالجرثومة لديه ارتداد معدي مريئي أصلاً. الجدير بالذكر أن نقل الدم من شخص مصاب إلى شخص سليم لا ينقل الإصابة بل ينقل فقط الأجسام المضادة ويكون الفحص الدموي لديه إيجابي دون إصابة. أي أننا إذا أجرينا فحص دم للشخص المنقول لديه دم مريض بجرثومة المعدة نجد أن لديه الفحوص المصلية للجرثومة إيجابية دون وجود حقيقي للجرثومة في المعدة.
إذاً كيف يمكن للشخص أن يعرف أنه مصابٌ بالجرثومة؟ و ما أعراضها؟ بالنسبة للأعراض فقد تكون غير عرضية مطلقاً عند المصاب بها، أما لدى المرضى العرضيين فيصعب القول أن هناك أعراضا سريرية خاصة بالجرثومة. ويمكن القول أن أي عرض في أعلى البطن (أي فوق منطقة المعدة) قد يكون مسبباً من الجرثومة، فالجرثومة تسبب التهاب معدة والالتهاب يقود إلى ارتشاح للخلايا الالتهابية وأذية الغشاء المخاطي. وهذه الأمور والحدثيات الالتهابية يمكن أن تسبب للشخص الكثير من الأعراض ومنها: حرقة أسفل المريء بسبب وصول الحمض إلى المريء، وهذا ممكن أن يكون له علاقة بالجرثومة حيث يزيد إفراز الحمض لدى بعض المصابين بها، كما أن الجرثومة تؤدي إلى إبطاء إفراغ المعدة من الحمض والمحتويات مما يؤدي إلى التجشؤ ويسبب الحرقة أسفل المريء، و كذلك فإن وجود الجرثومة يجعل المريض أكثر ميلاً للإقياء، وجودها يزيد من إنتاج المعدة لغاز CO2 مسبباً النفخة، وهناك الغثيان والذي يعتبر عرضا مهما لالتهاب الغشاء المعدي المرتبط بوجود الجرثومة، والشبع الباكر (نتيجة الانتفاخ وبطء الإفراغ) بوجود الجرثومة، وعرض آخر وهو الإقياء بسبب التهاب غشاء المعدة بالجرثومة (نظراً لحساسية غشائها المخاطي)، وانخفاض مستوى الحديد في الدم (بسبب النزيف المستمر الخفيف في المعدة) عند وجود الجرثومة وإحداثها للقرحة، وبعض أذيات صمامات القلب (في بعض الدراسات أن لها علاقة بوجود الجرثومة) و كذلك ربطت بعض الدراسات بعض حالات الهمود بوجود الجرثومة أيضاً.
نتيجة للأعراض التي تم ذكرها, ما الأمراض التي تحدثها الجرثومة في المعدة والإثني عشر حصراً؟ نعم يمكن أن تتسبب الجرثومة في عدة أمراض منها: قرحة الإثني عشر: تبين أن علاج قرحات الإثني عشر بمضادات الحموضة لوحدها لا تؤدي إلى شفاء تام للقرحة بل تعود إلى الظهور بعد قطع الدواء، لأن معظم أسباب حدوثها هو وجود الجرثومة. أما إذا طبقنا المعالجة الخاصة ضد الجرثومة فإن الشفاء من القرحة عالي النسبة كما أن 80 في المائة منهم بعد ذلك يستغنون تماماً عن الاستمرار في تناول مضادات الحموضة نظراً لانقطاع الأعراض بشفاء الجرثومة. ويجب ألا ننسى أن اختلاطات القرحات هي الانثقاب والنزف والتضييق لمخرج المعدة. قرحة المعدة: وتعتبر الجرثومة أشيع أسباب حدوثها, وإذا عولجت الجرثومة فإن هذه القرحة أيضاً عادة لا تعود للظهور بالشفاء من الجرثومة (ونسبة الشفاء عادة تقارب 70 إلى 90 في المائة) ويجب أن نتذكر أن 30 في المائة من القرحات هنا ليست بسبب الجرثومة بل بسبب بعض الأدوية و تأثيرها الإئتكالي (المخرش) كالأسبرين أو مضادات الرثوية وهذه القرحات أيضاً قد تستفيد من علاج الجرثومة في حال وجودها مرافقة للحالة، و في حال عدم وجود الجرثومة, فالعلاج يكون بمضادات الحموضة فقط . سرطان المعدة: سرطان المعدة الغدي يتشارك مع 70 إلى 90 في المائة مع وجود الجرثومة، كما أن وجود الجرثومة في المعدة يضاعف خطر نشوء السرطان ستة أضعاف إذ إن الجرثومة تؤدي إلى التهاب معدة مزمن يؤدي إلى إحداث ضمور في المعدة وبالتالي تغيرات سرطانية. ومن الجدير بالذكر أنه في المراحل المتقدمة النهائية من هذه الحالة قد لا تكتشف وجود الجرثومة في العينة المأخوذة من المعدة بل فقط تدلنا الدراسات المصلية على وجودها Hp-Ab كما أن 90 في المائة من لمفوما المعدة أو ما يسمى ب MALT يتشارك مع وجود الجرثومة. وتشير دراسات كثيرة أن معالجة الجرثومة والشفاء منها يؤدي إلى شفاء 50 في المائة من الحالات. سوء الهضم غير القرحي: لم يبرهن على دور الجرثومة في ذلك و لكن بعد نفي الأسباب المرضية الأخرى، يقترح تطبيق علاج الجرثومة وقد يتحسن بعض المرضى مباشرة والبعض الآخر ببطء وخلال عدة أشهر. وأشارت عدة تقارير أن المصابين بإقياءات مزمنة قد تحسنوا بعد تطبيق علاج الجرثومة، وكذلك حصل مع مرضى الغثيان دون إقياء.
سرطان المعدة من الأمراض التي تتسبب فيها جرثومة المعدة، فإلى أي مدى يجعل الشخص المصاب بالجرثومة قلقاً؟ يجب أن يعلم الجميع أن 30 في المائة من الأمريكيين لديهم الجرثومة ويشعرون بصحة جيدة، ولكن خطر التحول السرطاني هو 1/5000 أما التطور إلى القرحة فهو 1/100 وبذلك أنصح بتطبيق المعالجة في حال اكتشف وجود الجرثومة لدى الشخص والعلاج سهل التطبيق وقليل الآثار الجانبية فضلاً عن أنه يجنب المخاطر.
وكيف يتم تشخيص الجرثومة؟ قبل إجراء اختبارات فحص الجرثومة (في النفس أو الخزعة) يجب أن يكون المريض منقطعاً عن تناول أي مضاد حيوي أو البزموت قبل شهر، وعن أدوية PPI مثل Losec قبل أسبوع و مضادات الحموضة مثل Zantac وMaalox قبل 24 ساعة. وهناك أربع طرق للتشخيص: 1. التشخيص الدموي: للكشف عن الأجسام المضادة و وجودها إما يدل على الوجود الحالي أو السابق للجرثومة. إجراؤه سهل وخلال عدة دقائق. 2. فحص اللعاب: للبحث أيضاً عن الأجسام المضادة وهذان الإجراءان غير فاعلين لتأكيد الإصابة الحالية. 3. التشخيص بالمنظار: أي تؤخذ خزعة من جدار المعدة أثناء إجراء المنظار الهضمي و توضع في وسط حاوٍ على مادة اليوريا حيث تقوم الجرثومة بخاصيتها المعروفة بشطر اليوريا وإحداث غاز الكربون الذي يحوّل الوسط إلى حامضي و بذلك يتغير اللون إلى الأحمر، و يسمى بالفحص السريع أو CLO-Test أو عبر فحص العينة بالمختبر ويدعى Silver-Stain. 4. التشخيص بالنفس: يعطى المريض الصائم على الأقل ست ساعات كبسولة أو سائل يحوي على مادة اليوريا الموسومة في الكربون المشبع C14 أو C13 . وتقوم الجرثومة كما ذكرنا بشطر اليوريا وينطلق غاز الكربون المشع بالنفس ويمكن كشفه بواسطة جهاز خاص سهل الإجراء وسريع ورخيص الثمن مقارنة مع إجراء المنظار. 5. التشخيص بفحص البراز: يمكن البحث أيضاً عن جرثومة المعدة بفحص البراز المباشر حيث تطرح من المعدة باتجاه الأمعاء، ولكن لا تكون هذه الجرثومة ممرضة في الأمعاء الدقيقة ولا الغليظة ولكن وجودها يكون عابراً فقط ولا تستوطن في الأمعاء بل تخرج مع البراز وبذلك تنتقل العدوى.
وماذا عن العلاج؟ إن علاج هذه الجرثومة له عدة استراتيجيات، نظراً لصعوبة الوصول إليها وقد اقترحت هذه الطرق المتعددة في علاجها للتغلب على ظاهرة مقاومة المضاد الحيوي. وتعتمد كل الطرق على إعطاء دواء يغير الوسط المعدي من حامضي عالي التركيز إلى أقل تركيزا باتجاه الوسطية. وكذلك إعطاء جملة من المضادات الحيوية التي تختلف فيما بينها في طريقة تأثيرها في الجرثومة. فمثلاً تعطي الطريقة نفسها قاتل باكتيريا وموقف باكتيريا، وأحياناً تستخدم الأدوية التي يتناول طيفها الجراثيم اللاهوائية للوصول إلى العمق ضمن الغشاء المخاطي. وبشكل عام تطبق الاستراتيجيات العالمية المعروفة الآن بالمعالجة الثلاثية لمدة أسبوع إلى أسبوعين ومن ثم تستمر في دواء مغير الوسط الحامضي لمدة شهر بعد ذلك. ولكن على الرغم من ذلك قد تعند بعض الحالات على هذه الطرق التقليدية فنلجأ إلى العلاج الرباعي (مؤلف من أربعة أدوية). وهناك طريقة علاج موضعية تسمى طريقة Kimura حيث يوضع في معدة المريض سائل يحوي عدة مضادات حيوية بنسب عالية ويغلق مخرج المعدة ببالون لمدة عدة ساعات فينتج تأثير الأدوية مباشرة على الجرثومة مما يؤدي إلى قتلها بشكل أسرع. وتتميز هذه الطريقة بأنها لا تحتاج إلى وقت طويل و أنها سهلة التحمل من المريض و تكون الآثار الجانبية للمضادات الحيوية أقل بسبب الامتصاص الأقل عن طريقة التناول الجهازي، كذلك فإن الأدوية لا تصل إلى الجرثومة عبر الدوران الدموي كما هي الطريقة التقليدية بل تصلها مباشرة و تؤثر فيها.