الحمد لله رب العالمين، الملك الحق المبين, الخافض الباسط, الفعال لما يريد, مالك الملك، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه, خلق فسوى، وقدَّر فهدى, وأخرج المرعى، فله الحمد في الآخرة والأولى, والصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير محمد بن عبد الله الصادق الأمين صلى الله عليه وعلى آله الأطهار وصحابته الكرام وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد: المطلع على أحوال كثير من الناس يراهم منهمكين قد شمروا عن سواعد الجِدِّ والاجتهاد في الكدِّ والعمل من أجل إشباع البطون والعيال؛ وهذا أمر مطلوب, وليس ثمة مشكلة هنا, وإنما المشكلة أن يؤدي ذلك بهم إلى التفريط في أمر الآخرة, إذ يصبح الهمُّ في الحياة هو جمع المال من حرام أو حلال لا يبالي, فينسى المسكين أن المستقبل الحقيقي هو الذي فرط فيه، فإنه مهما طال عمره في الحياة الدنيا سيموت وهذا هو معنى حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حين قال: "أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل))، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك"1، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير، فقام وقد أثر في جنبه، فقلنا: يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء، فقال: ما لي وما للدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها"2, وقال حفص بن سليمان رحمه الله: "دخل رجل على أبي ذر فجعل يقلب بصره في بيته فقال: يا أبا ذر أين متاعكم؟ قال: إن لنا بيتاً نوجه إليه صالح متاعنا، فقال: إنه لا بد لك من متاع ما دمت هاهنا، قال: إن صاحب المنزل لا يدعنا فيه"3, وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "إن الدنيا ليست بدار قراركم، كتب الله عليها الفناء، وكتب على أهلها منها الظعن، فأحسنوا رحمكم الله منها الرحلة بأحسن ما بحضرتكم منالنقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"4.
والله لو كانت الدنيا بأجمعها *** تُبقي علينا ويأتي رزقها رغداً
ما كان من حق حرٍ أن يذل لها *** فكيف وهي متاع يضمحل غداً
أخي الكريم: إن المستقبل الحقيقي لابن آدم ليس هو جمع المال، ونيل المنصب، وامتلاك أحسن البيوت، وأفخم المراكب, فإن كثيراً من الناس يقولون: نريد أن نؤمِّن مستقبلنا، فيسرقون أموال الناس, ويخونون ويخدعون، ويتقاتلون ويتنافسون لأجل تامين مستقبلهم الوهمي؛ وإنما المستقبل الحقيقي والله هو ما سيحصل بعد الموت، المستقبل هو منازل الآخرة: القبر وما بعده، فماذا قدمت لهذا الأمر؟ أخي الحبيب: قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا}[النساء: 56], وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[الحشر: 18]، فلنجمع لأنفسنا الزاد لرحلة الآخرة الطويلة الشاقة, فيا لها من رحلة موحشة مرعبة قال الله تبارك تعالى: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ}[البقرة: 197], فهذا أمر من الله تبارك وتعالى لنا بالتزود في هذه الحياة, كما أمر سبحانه بالمسابقة والمسارعة لفعل الخيرات في غير ما آية من كتابه الكريم فقال:{فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة: 148]. وقال سبحانه: {وَسَارِعُواْ ....}[آل عمران: 133], وقال: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}[الحديد: 21].
أخي الكريم:
سبيلك في الدنيا سبيل مسافر *** ولا بد من زاد لكل مسافر
ولابد للإنسان من حمل عدة *** ولا سيما إن خاف سطوة قاهر"
وقال الآخر:
تزود للذي لا بد منه *** فإن الموت ميقات العباد
وتب مما جنيت وأنت حي *** وكن متنبهاً قبل الرقاد
ستندم إن رحلت بغير زاد *** وتشقى إذ يناديك المنادي
أرتضى أن تكون رفيق قوم *** لهم زاد وأنت بغير زاد؟
وتلك المنازل أخي الكريم: أولها سكرة الموت ووالله إنها الرعب العظيم لمن ابتلي بحب الدنيا والمال، فياله من موقف مخيف عند نزول ملك الموت وأعوانه بصورتهم الشديدة ليفصلوا الروح عن الجسد بالكلاليب وبالسحب ونحن نتأوه من الألم وننظر إلى أهلنا يبكون لا يستطيعون أن يقدموا لنا عونا. ثم تغادر الروح الجسد فيحملنا أهلنا وأحبابنا إلى القبر المخيف, ذك المضجع المظلم, لا صاحب ولا حبيب, يتقربوا إلى الله تبارك وتعالى بوضعنا في تلك الحفرة, وبوضع التراب علينا, سبحان الله العظيم يتخلص منا الأبناء والآباء يتخلص منا الأحباب والأصحاب, ويصب علينا التراب, ثم يرحلون عنا ويقتسمون الأموال, ونبقى فرادى مرعوبين في ظلام دامس لا نرى أي ضوء، والقبر يبدأ بالضغط علينا ضغطة تختلف منها الأضلاع, نصرخ ننادي نتوسل ولا من مجيب, والقبر يزيد ضغطه لأنه يضغط بأمر ربه تبارك وتعالى فكيف يخفف ضغطه, ونحن في هذا الحال والتعاسة يأتينا الملكان الموكلان بالسؤال, فيقولان: من ربك؟ ومن نبيك؟ وما دينك؟ ونحن في حالة لا نملك الفرار والتخلص منهم قد أثقلنا التراب, فبقيت في حسرة, وأهلي قد نسوني وأصبحت مرتهن بما عملت وما قدمت في هذه الحياة قال الله تبارك وتعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[غافر: 17], وقال:{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}[المدثر: 38], ثم يسلمونه كتابه, سجل أعماله في هذه الحياة فمن قدم خيراً فله كل خير, وإن كان غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه قال الله تبارك وتعالى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا}[الإسراء: 13], وقال الله سبحانه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}[الزلزلة: 7 – 8], ثم تنتهي حياة البرزخ بعد مدة من الزمن, فيخرج الناس من القبور حفاة عراة, مهطعين إلى الدع قال الله: {مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ}[القمر: 8], وقال سبحانه:{وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ * وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ}[إبراهيم: 43-44], فتتشقق السماء وتنسف الجبال, وتدنوا الشمس من الرؤوس, ويوضع الميزان وتتطاير الصحف قال العلامة حافظ الحكمي رحمه الله في سلم الأصول: