منذ الأزل البعيد والأمد القريب يقوم المخلوق العاقل «الإنسان» ببناء ملجأ روحيً يمتنع به عن وعثاء التشويش الذهني الذي يدور في مكنوناته الفكرية، عن ما هو السبيل إلى الاستقرار الداخلي للنفس البشرية التي لطالما تبذل السعي إلى إرسال رسائل متنوعة للعقل الباطن تحمل في طياتها طرائق متعددة عن سبُلٍ يتراءى من خلالها أنها هي الحقُ ما بين العالمين،
فعلى أثر ذلك انتشرت في المجتمعات البشرية القديمة والحديثة منها شرائع وضعية ذات طابعٍ روحانيً؛ ليستقيم منها المفهوم الخالص عن السبيل الأسلم لتحقيق «الراحة الداخلية المنشودة»، لكن حين بدأت هذه الشرائع تضعف وتنسل من نفوس معتنقيها بسبب الجو الوثني الذي يُحيط في قدسيتها عرف المخلوق العاقل «الإنسان» أن هنالك خطأ استراتيجيًا في اختياراته الروحانية؛ فأنكب من جديدٍ في رحلة بحث مضنية مرهقة بمداراته الفلسفية الهائمة أصلًا في فلك عظمة الكون، ودقة النظام التزامني في لحظات الغروب
والشروق، فلاحَ في الأفق البعيد نور وضاء جاذب لكل الهائمين والساعين لإيجاد الحقيقة المطلقة المحققة للسلام الداخلي للنفس البشرية، ألا وهو نور الديانات السماوية الإبراهيمية الثلاث: اليهودية والنصرانية والإسلامية، كلٌّ حسب مرتبة ظهوره التاريخي في تلك الأزمنة ذات الظلام الدامس، فتمددت هذه الديانات الثلاث، وزاحمت مراتع الوثن في المشارق والمغارب من الكرة الأرضية؛ حتى نالت حظوة المرجع المعرفي التام الذي يجيب عن أسئلة المخلوق العاقل «الإنسان» عن سبب وجوده في الأرض، ومن أوجده، وما هي
الغاية الأسمى من وجوده في الأرض في أوساط المهتمين بهذا الشأن العقدي والفلسفي، فعندئذ بُنيت صومعة مجازية في ذهن المخلوق العاقل من حجر القواسم المشتركة من رسائل كتب الديانات الثلاث: التوراة، والإنجيل، والقرآن. وأسمى هذه الصومعة «الإيمان بالله»؛ لتكون شاهدةً على أن الروحانية الحقة تتبلور من الإيمان الخالص ظاهر الولاء لله تعالى،
فصومعة «الإيمان» تنثر في الطريق الفكري للمخلوق العاقل ورود السكينة ولمحات للإلمام في المصير النهائي للوجود والجزاء المستحق لكل من سلك أو حاد عن طريق الإيمان بالله العظيم، فديمومة الهوى والعصيان لن تعيد الهدوء المنشود من قبل، ولا تغنيه من بعد، فعلاقة المخلوق العاقل بالإيمان كعلاقة السمكة مع الماء، فبدون ماء لن تعيش السمكة طويلًا؛ لأن
بهجة الإنسان في حياته ورونق ذاته تكون مع الإيمان، فبه تتوارد فسيفساء السعادة والطمأنينة محددةً أطر تفاعلاته الاجتماعية، وما هو الأصح في حل المنغصات التي تتعرض مسيرة حياته، وحين نستعرض سير أحداث التاريخ سنلحظ أن الشعوب الإنسية تلجأ للأيمان في أدنى معترض قدري يتلقفهم؛ لأنهم يعلمون في قرارة أنفسهم بأن من أوجد الوجود «الله» سبحانه باستطاعته أن يغير المعترض القدري فور اللجوء للتضرع له، ونلحظ أيضًا أن الشعوب ذات الطابع المؤمن في
نظرتهم الشمولية نحو الحياة تستسهل العوائق المعيشية الطاحنة؛ بسبب أن أرواحهم مركونة للإيمان السماوي الذي يُشعرهم بلذةٍ مريحة تُغنيهم عن السعي الحثيث نحو الكماليات التي في نظر غيرهم أنها من الموجبات المُحدثة للراحة الداخلية وللسلام المطلوب، ونذكر هنا تحديدًا زمننا هذا الذي جبُل فيه غير المؤمنين بدينٍ سماوي أن يجعلوه زمن المادة المجردة التي بها تكون المعرفة المطلقة في جميع نواحي الواقع المعيش؛ فيرون أن الإيمان السماوي عبارة عن تراث متناقل، ولم يعلموا أن ما زعموا أنه تراث، إنما هو «جوهر
الوجود»، ويتعامون عما تعرضت له الكتب السماوية، وخصوصًا القرآن الكريم عن حقائق علمية دامغة عن الكون، وعن كيفية نشوء الجنين في بطن أمه، وغيرها، فصومعة المخلوق العاقل ستظل شامخةً في بُنيانها وعامرةٌ في مواضع المؤمنين أيًا كانت لغاتهم وبيئاتهم.