سياسات الرئيس القادم تحدد اتجاه اتفاقيات التجارة الحرة والأسواق
الغيوم تكسو سماء الاقتصاد العالمي قبيل الانتخابات الأمريكية
وفقا لعديد من المؤشرات فإن الاقتصاد الأمريكي يبدو في وضع لا بأس به، فمعدلات البطالة تراجعت من 5.8 في المائة العام الماضي إلى 5 في المائة هذا العام، وهناك سيطرة ملحوظة على معدل التضخم، ومعدلات الفائدة لا تزال منخفضة، ما يتيح لصناع السياسة النقدية "مجلس الاحتياطي الفيدرالي" هامشا جيدا للحركة المستقبلية، وأغلب الشركاء التجاريين للولايات المتحدة، لا يبدون في وضع يمكنهم - على الأقل نظريا - من الدخول في حرب تجارية مع واشنطن. ويبدو الدولار في عديد من الأحيان جوادا جامحا تصعب السيطرة عليه، ومع هذا لا تبدو صورة الاقتصاد الأمريكي براقة بما يجب، ولا يبدو الاقتصاد الأمريكي الذي يمثل 20 في المائة من الناتج الإجمالي العالمي، قادرا على طرح النموذج القادر على إخراج الاقتصاد والتجارة الدوليين من عثراتهما.
بل زاد الوضع قلقا حول المستقبل الاقتصادي للولايات المتحدة خلال الأشهر الأخيرة، وتحديدا منذ تبلور حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية، في صراع بين هيلاري كلينتون مرشحة عن الحزب الديمقراطي، ودونالد ترامب مرشحا عن الحزب الجمهوري.
ويبدو البروفيسور كيفين نيل أستاذ الاقتصاد الدولي، أحد الوجوه الاقتصادية البارزة، التي تعتبر أن تحسن مؤشرات الاقتصاد الأمريكي، لا يجب النظر إليه بشكل مطلق، إنما ينبغي النظر إلى الحالة النفسية للأسواق ومدى ارتباطها بتلك المؤشرات.
وأوضح نيل لـ "الاقتصادية"، أنه لفهم الاقتصاد الأمريكي وتداعياته على الاقتصاد العالمي، لا بدَّ من الربط بين مجموعة من العوامل، فالمؤكد أن هناك حالة من عدم اليقين أو الاستقرار تهيمن على الاقتصاد الدولي عامة، والاقتصاد الأمريكي خاصة، وتضعف إلى حد كبير من قدرتنا على التنبؤ تجاه المستقبل القريب، كما أن هناك قناعات سلبية تجاه معدلات النمو المتوقعة خلال العام المقبل، ويرتبط ذلك في جزء كبير بطبيعة المرشحين لانتخابات الرئاسة الأمريكية والطريق الذي سيسلكه الاقتصاد الأمريكي، وإلى حد كبير أيضا بوضع الاقتصاد العالمي بعد إعلان نتيجة الانتخابات.
ويواصل نيل قائلا "هذا الجانب يرتبط بجانب آخر شديد الأهمية والخطورة في الوقت ذاته، فمؤشر سوق الأسهم يقترب من أن يصبح الأعلى مقارنة على الأقل بالعام الماضي، وهذا يعني أن أي هزة جراء عدم اليقين المهيمن على الأسواق، ستعقبها تداعيات سلبية على سوق الأسهم الأمريكية، وهذا ربما يمثل أزمة مماثلة لما حدث في عام 2008".
إلا أن تلك الرؤية لجوانب الخلل الراهن في الاقتصاد الأمريكي، لا تتناقض من وجهة نظر الدكتورة إلين توماس أستاذة التجارة الدولية في جامعة كنت، مع التحليلات التي تشير إلى جوانب قصور تقليدية أيضا في البنية الحالية للاقتصاد الأمريكي.
وتوضح توماس لـ "الاقتصادية"، أن الاقتصاد الأمريكي لم يعد منتجا كما كان في السابق، فحاليا تتجاوز واردات الولايات المتحدة صادراتها، ويتزامن ذلك مع بيع واشنطن عديدا من أصولها، أضف إلى ذلك الاقتراض بمعدلات غير مسبوقة، للحفاظ على مستوى معيشة المواطن الأمريكي عند مستويات مرتفعة، وهو ما لا يمكنها تحقيقه بمواردها الداخلية فقط، ووفقا للبيانات الرسمية فقد بلغ العجز في السلع والخدمات 36.4 مليار في شهر أيلول (سبتمبر) الماضي، فالصادرات الأمريكية حققت 189.2 مليار دولار بزيادة مليار دولار عن شهر آب (أغسطس)، بينما بلغت الواردات 225.6 مليار دولار.
وتضيف توماس أن "هذا بالطبع له انعكاسات سلبية على سوق العمل، فكل عجز في الميزان التجاري بمقدار مليار دولار يؤدي إلى خسارة نحو 9000 وظيفة عمل، وهذا ينعكس على زيادة الخطاب السياسي الشعبوي، والمرشح الرئاسي دونالد ترامب خير ممثل له، ومن ثم تتعزز الأفكار الحمائية تجاه الأسواق، وتلوح في الأفق إمكانية اندلاع حروب تجارية بين كبار الشركاء التجاريين في العالم، وهو ما سينعكس سلبا على معدل الأداء الاقتصادي في الولايات المتحدة على المدى المتوسط، كما سينعكس سلبا على معدل نمو الاقتصاد الدولي، وسيؤدي حتما إلى تراجع معدل نمو التجارة الكونية".
ومع هذا يعتقد بعض المختصين أن السنوات الثماني للرئيس الأمريكي باراك أوباما، لم تفلح في إخراج الاقتصاد الأمريكي من أزمة 2008، وأن تلك الأزمة كلفت واشنطن 22 تريليون دولار ونحو 8.8 مليون أمريكي في حالة بطالة، وأن بعض الضوء هنا وهناك، لا ينفي أن الغيوم الرمادية تحلق في سماء الاقتصاد العالمي.
ويعتقد هؤلاء أن الأزمة غير مستبعدة سواء في أمريكا أو في اقتصادات بلدان أمريكا الجنوبية أو إفريقيا أو حتى الصين، والسبب يعود إلى ارتفاع معدلات الدين العالمي، التي يرجعها الدكتور ديفيد آرثر الاستشاري في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، إلى سياسات التيسير الكمي التي اتبعتها واشنطن في أعقاب اندلاع الأزمة المالية عام 2008.
وأشار آرثر لـ "الاقتصادية" إلى تقرير نشرته منظمته قبل أيام بالتعاون مع مؤتمر التجارة والتنمية التابع للأمم المتحدة، أكدت فيه أن الإدارة الأمريكية وجدت في سياسة التيسير الكمي خلال الأشهر الأخيرة للرئيس السابق بوش، والسنوات الثماني للرئيس أوباما حلا مثاليا لأزمتها المالية، وانعكس ذلك في توفير عمليات إقراض بأسعار متدنية، واستخدم المستثمرون تلك الأموال للمضاربة في البورصة الأمريكية، ما رفع قيمة الأسهم بصورة مفتعلة، كما تم ضخ نحو 9.8 ترليون دولار إقراض لمصارف أجنبية، وفي عمليات شراء سندات خزانة، سبعة تريليونات منها استخدمت في الاقتصادات الناشئة.
وبحسب آرثر فقد أربك هذا المشهد الأمريكي الاقتصاد الدولي، لافتا إلى أن واشنطن تتراجع عن تلك السياسة حاليا، وهذا يمكن أن يؤدي إلى انفجار فقاعة الأسهم الأمريكية، التي تعد أكبر التحديات التي يمكن أن تواجه الاقتصاد الأمريكي والعالمي في العام المقبل، خاصة إذا ارتبطت بعدم قدرة عديد من المقترضين على سداد ما عليهم من قروض.
ويعتقد مصرفيون في المملكة المتحدة، أن المشكلة الرئيسية التي تواجه الاقتصاد الأمريكي حاليا، تتمثل في نهج السياسية المالية المتبع عبر تبني سعر فائدة منخفضا.
وبصرف النظر عن موعد الزيادة المتوقعة للفائدة الأمريكية أو مقدار تلك الزيادة، فإن دور الآليات المالية في وضع حد للمصاعب التي يواجهها الاقتصاد الأمريكي، يقترب من بلوغ أقصى ما يمكن أن تقدمه.
وقال لـ "الاقتصادية"، سميث ستانلي المختص الاقتصادي "إن إحدى تبعات السياسة النقدية لمجلس الاحتياطي الفيدرالي هي ارتفاع سعر صرف الدولار في مواجهة العملات الدولية الأخرى، وهناك توقعات بارتفاع قيمة الدولار في مواجهة اليورو على سبيل المثال بنحو 10 في المائة خلال عام 2017".
وأضاف ستانلي أن "الديون الأمريكية زادت في عهد أوباما بمعدلات غير مسبوقة، إذا اقترضت الولايات المتحدة خلال فترة توليه الرئاسة ثمانية تريليونات دولار، ولأن معدلات الفائدة منخفضة لم يشعر الاقتصاد الأمريكي بفداحة هذا الدين بعد، لكن مع رفع الفائدة فإن سداد فوائد الدين سيكون شديد الوطأة خلال عام 2017 والأعوام المقبلة".
الدكتورة جوليا تد أستاذة اقتصادات السكان في جامعة لندن، تربط بين انخفاض معدلات النمو الأمريكي، وما يعرف بالشيخوخة السكانية، والسياسات المالية الواجب اتباعها للخروج من تلك الأزمة المرتقبة.
وتوضح لـ "الاقتصادية"، أن هناك شيخوخة متزايدة في قوة العمل الأمريكية، وينعكس ذلك جزئيا في شكل تراجع معدل النمو الاقتصادي، خاصة إذا لم يترافق مع تطوير وتحديث لوسائل الإنتاج، مشيرة إلى أن تراجع معدلات النمو سيتطلب خفض أسعار الفائدة، وربما يؤدي إلى تدخل متزايد من المجلس الفيدرالي في الشأن الاقتصادي، ما يؤهله لأن يصبح في المرحلة المقبلة العصب الرئيسي لإدارة الاقتصاد الأمريكي، وهذا سيعزز من دور السياسات المالية على حساب السياسات الحكومية والضريبية، وقد يؤدي ذلك إلى اتساع الفجوة الطبقية في المجتمع. ويعرب بعض المختصين في مجال التجارة الدولية، عن قلقهم من أن يؤدي أي ارتباك محتمل في الاقتصاد الأمريكي، إلى انعكاسات سلبية على الاقتصاد الدولي، عبر التأثير السلبي في معدلات نمو التجارة العالمية.
ويشير كوبر برادي الباحث في منظمة التجارة الدولية، إلى التأثير الذي يمارسه الاقتصاد الأمريكي على مسار التجارة الدولية، ويعتبر أن الاقتصاد الأمريكي يحدد المسار العريض للتجارة الدولية عبر قناتين رئيسيتين، الأولى ترتبط بالدولار، باعتباره العملة الرئيسية في التبادل التجاري العالمي.
وأضاف برادي أن "تعرض العملة الأمريكية لهزات ملحوظة سواء بمواصلة الارتفاع أو تعرضها لانخفاض كبير يمكن أن يؤدي إلى تغيرات محسوسة في مسارات التبادل التجاري الدولي، لكن المسار الأكثر خطورة يتمثل في نصيب الولايات المتحدة من الاقتصاد الدولي، الذي يبلغ نحو 20 في المائة، وهو ما يضع أمريكا في موقع اللاعب الرئيسي في التجارة الدولية، ومن ثم فإن أي تقييد للتجارة الحرة من قبل الإدارة الأمريكية المقبلة، سيؤدي حتما إلى مزيد من التراجع في معدلات نمو التجارة الدولية العام المقبل".
الاقتصادية