السؤال موجّه إلى الوزارات الثلاث (التعليم.المالية.الخدمة المدنية) التي كلفت بمراجعة لائحة شاغلي الوظائف التعليمية تمهيداً لرفعها لمجلس الوزراء..وموجّه إلى اللجان الأخرى التي تدرس ما يتعلق بتقاعد موظفي الدولة..ومنهم المعلمات والمعلمون بطبيعة الحال.
وأريد في البداية أن أخبركم أيتها اللجان الموقرة..بصراحة متناهية..أن المعلمين والمعلمات هذه الأيام يضعون أصابعهم في آذانهم ويستغشون ثيابهم ليس استكباراً..وإنما خوفاً ورعباً من (الفاقرة) التي ينتظرونها ويتوقعونها منكم..وأن العديد منهم ومنهن يفكر في التقاعد المبكر..وبعضهم أقدم عليه فعلاً.
أما لماذا هم متشائمون؟! فلعدة أسباب
أوجزها فيما يلي :
1- أن معالي وزير الخدمة المدنية جعل المعلمين والمعلمات وهم الشريحة الأضخم من الموظفين (حوالي 800 ألف) من ضمن الموظفين الذين لا يعملون إلا ساعة واحدة وفق نتائج دراساته التي لا يعلم أحد إلى اليوم من أين أتى بها..رغم أن طلابهم في الابتدائية يعرفون أن 24 حصة في 45 دقيقة تعني 1080 دقيقة..وهذا يعني 18 ساعة وهم واقفون خلال أيام العمل الخمسة..أي بمعدل 3.6 الساعة كل يوم..فإذا أضفنا إليها طابور الصباح والإشراف والنشاط والاحتياط وأعمال الاختبارات والتحضير والتصحيح ومتابعة ومعالجة سلوك الأبناء..وغيرها الكثير.فإن المعدل سيرتفع بكل تأكيد إلى نتائج لا ترضي دراسات الوزير الذي فيما يبدو أنه بيت النية لمحاسبة هؤلاء الموظفين (الكسالى من وجهة نظره) بقصقصة رواتبهم.
2 - أن وزارة الخدمة المدنية تسعى جاهدة منذ سنين لأن تكون وظيفة المعلم كأية وظيفة إدارية أخرى..وينطبق عليها ما ينطبق على تلك الوظائف من لوائح وأنظمة..كالإجازات التي تمت محاصرتها بكل قوة حتى أصبح المعلم والمعلمة يداومان لإلقاء التحية على جدران المدرسة وتذكّر مرابع الطلاب والبكاء على أطلال السنة الدراسية ثم المغادرة إلى منازلهم..وبعضهم يسافر كل يوم لأجل هذا الغرض.
3 - أن وزارة الخدمة المدنية في ضوء إصرارها على معاملة المعلم كالموظف أضرت بالطلاب من ناحية وبالمعلمين المجتهدين وبالعملية التعليمية برمتها من ناحية أخرى..حين ساوت غياب المعلم بغياب الموظف..علماً بأن غياب المعلم في يوم واحد يعني غياب جميع طلابه الذين يدرسهم حتى وإن كانوا حاضرين بأجسادهم..وأن غياب المعلم يعني إشغال معلم آخر (بدون مقابل)..وغير ذلك من الآثار التربوية في نفوس الطلاب..ولكنه الإصرار الأعمى على أن يخضع المعلم لأنظمة الخدمة المدنية كالموظف تماماً..وأذكر هنا أيضاً (جواز وليس وجوب) طي قيد الموظف (وهو ما ينطبق على المعلم) إذا غاب خمسة عشر يوماً متصلة أو ثلاثين يوماً متفرقة..فهل أثر غياب المعلم المختص في مادته ثلاثين يوماً عن الطالب يعامل كغياب الموظف عن (المعاملة) التي سينجزها غيره ؟! وأضيف..أن تلك الثلاثين يوماً مرتبطة بالسنة المالية وليست السنة الدراسية..ويا قلب لا تحزن.
4 - أن وزارة الخدمة المدنية عاجزة إلى اليوم عن إيجاد حل للمعلمين المبعدين عن اللائحة التعليمية..وما زالوا إلى اليوم يتقاضون رواتب المعلمين وهم مكلفون بأعمال إدارية..وهي عاجزة إلى اليوم عن تصنيف وظيفي للممارسات التعليمية الأخرى كالإشراف والإرشاد والنشاط والقيادة المدرسية والقيادة التعليمية وغيرها..كما أنها تعمل مع وزارة المالية على التضييق على تلك الممارسات وشاغليها دون اعتبار لاحتياجات العملية التعليمية ذاتها أو لتوجهات ومشاريع وطموحات وزارة التعليم..بل وحتى وظائف المعلمين يتم اعتمادها (بالقطارة) من وزارة المالية..ما أدى إلى تنامي كثافة الطلاب في الفصل الواحد وإنهاك المعلم بخمسين طالباً في كل فصل..وأثر ذلك على المخرجات..وهو عكس سير طموح وتوجهات كل دول العالم.
5 - أن وزارة التعليم ذاتها لم تصحح مستويات بعض المعلمين المستحقة إلى اليوم..بل أصبحت خصماً لهم في المحاكم..ولم تهتم بالبيئة المدرسية وما زالت المباني المستأجرة وفصول (المطابخ) موجودة إلى اليوم..ولم تعمل بجهد كبير لاستقرار المعلم والمعلمة في بيئتهما وتلبية طلبهما حين التعيين أو النقل..وكم من معلم أو معلمة من الشمال يتم تعيينها في الجنوب..بينما ابنة الجنوب في نفس التخصص يتم تعيينها بنفس القرار بمدارس الشمال خلافاً لرغبات الجميع..وفي غياب شبه تام لإنشاء مساكن لائقة للمعلمين والمعلمات ضمن مباني المدارس في المناطق النائية..كما أن الوزارة لم تعمل على سن قوانين صارمة لحماية المعلمين والمعلمات حتى من طلابهم..ولم تسهم في تخفيف الأعباء على المعلم بنقل أبنائه وبناته..بل لم تسهم في تخفيف الأعباء عن جميع الموظفين وتخفيف زحام الشوارع بنقل الطلاب في حافلات..خاصة في المدن الكبرى التي تشهد ذروات زحام شديد بسبب إيصال الأبناء للمدارس وخروجهم منها..وما يتبع ذلك من تأخر وخروج قبل نهاية الدوام..وهذه الأعباء جميعها تضاف إلى أعباء الوظيفة التعليمية وتؤثر على إنتاجها.
6 - أن وزارة التعليم تبتكر كل يوم برنامجاً أو مشروعاً أو أسلوباً تعليمياً..وتلقي به إلى الميدان دون تهيئة أو تدريب للمعلمين والمعلمات..أو تدربهم على عجل..ولا يكاد المعلمون يقتربون من إتقانه (من مبدأ المحاولة والخطأ) إلا وغيرته بغيره..مما أربك المعلم والعملية التعليمية ذاتها وأفقد الجميع الثقة في تلك البرامج.
7- كما انشغلت وزارة التعليم وأشغلت المعلمين والمعلمات والطلاب والطالبات معها بقضايا تعالج بها تناقضاتها (وعظية وإرشادية ووقائية) مما يستهلك أوقاتهم وينهك أفكارهم ويعرضهم للتجاذبات والتيارات المختلفة..وكان بإمكانها تجاوز ذلك بمراجعة دقيقة وصادقة وواضحة لمناهجها..أو إدراج بعض تلك القضايا إن لزم الأمر ضمن المناهج وعزل البعض الآخر..أو تجنب ذلك من الأساس وتجنيب الطلاب تلك الأفكار باجتثاث العناصر المؤثرة من المعلمين والمعلمات أنفسهم..والتركيز على المعلومة والقيمة الأخلاقية فقط.
8- التوجه العام لتقليص النفقات في ظل رؤية 2030 وما سبق من قرارات مست بدلات الموظفين وعلاواتهم..رغم الوعود بعدم الاقتراب من الرواتب..وكذلك ما أثير حول تعرض صندوق معاشات التقاعد للإفلاس بعد سنوات..وما تتناقله وسائل التواصل الاجتماعي من تسريبات حول زيادة النسبة المستقطعة للتقاعد من الرواتب..ورفع سن التقاعد..وخفض نسبة الاستحقاق..وغير ذلك.
كل هذه العوامل..وغيرها..جعلت المعلمين والمعلمات غير متفائلين بما ستتخذه تلك اللجان من توصيات..بل يتوقعون أن تزيد الطين بلة.
وقبل أن تبدأوا في الإجابة..دعوني أوضح لكم بعض الحقائق التي أتمنى أن لا تغيب عن أذهانكم :
أولاً-- أن رؤية 2030 حسب فهمي المتواضع لها تركز على الاستثمار في الإنسان..وأن ذلك الاستثمار لن يكون إلا من خلال التعليم..وأن نجاح ماليزيا واليابان وسويسرا وكوريا الجنوبية وغيرها رغم عدم وجود الموارد الطبيعية عائد إلى التعليم..وأن المعلم والمعلمة هما العمود الفقري لكل ذلك.
ثانياً-- أن اليابان وغيرها..وتبعتها الإمارات مؤخراً..تتباهى بإن دخل المعلمين هو أعلى دخل بين موظفي الدولة.
ثالثاً-- أن تحفيز الموظفين مادياً ومعنوياً يأتي في مقدمة أسباب رفع إنتاجية الموظف..والعكس صحيح.
بقي الآن أن أضع بين أيديكم بعض الاقتراحات الخاصة بهذا الموضوع والتي أعتبر من وجهة نظري البسيطة أنها ستساعد على تحقيق رؤية المملكة 2030 بإذن الله.
1- وضع وصف دقيق للممارسات الوظيفية التعليمية القائمة حالياً أو التي تعتزم وزارة التعليم استحداثها في المدارس ومكاتب وإدارات التعليم..تكون موزونة بالوقت..واعتماد مسميات وظيفية لها ضمن اللائحة الجديدة..وما يقابل ذلك التوصيف من مميزات وحوافز مادية ومعنوية..ومن معايير تقويم.
2 - استحداث أنظمة ولوائح خاصة بالوظيفة التعليمية في وزارة الخدمة المدنية..وعزلها تماماً عن أنظمة الوظائف الإدارية.
3 - ربط الحقوق المادية والمعنوية والواجبات الوظيفية لشاغل الوظائف التعليمية بالسنة الدراسية..وليس بالسنة المالية كما هو معمول به حالياً.
4 - وضع الحوافز والمميزات للممارسات الوظيفية القيادية والإشرافية..والتي تشهد عزوفاً من الكفاءات الحقيقية.
5- تفويض وزارة التعليم تفويضاً تاماً بالتصرف في ملاكاتها الوظيفية لتسهيل نقل التعليمي إلى إداري أو العكس..مع إيجاد آليات مرنة بينها وبين وزارتي المالية والخدمة المدنية لتحقيق ذلك.
6- وضع معايير جديدة لاختيار شاغل الوظائف التعليمية.
7-نشر اللائحة الجديدة قبل تطبيقها بوقت كافٍ..وإتاحة الفرصة للمعلم والمعلمة للاختيار بين الاستمرار في ظل اللائحة الجديدة أو المغادرة..وهذا الإجراء شبيه بما قامت به بعض القطاعات الحكومية عندما تمت خصخصتها..وما سمي بالشيك الذهبي حينها..وهو يحقق مجموعة من المنافع لعل من أهمها الرضا الوظيفي لمن اختار البقاء واستعداده لتطوير نفسه..وتوظيف المزيد من الشباب وإحلالهم في الوظائف الشاغرة..والتخلص من بعض العناصر التي تؤثر سلباً على الأداء.
8- التوسع في التوظيف وفق المعايير الجديدة..وفي بناء المدارس الحكومية والاهتمام بالبيئة المدرسية وزيادة رواتب المعلمين والمعلمات ومنح المكافآت والحوافز للمتميزين..وذلك لتحقيق الجودة العالية في نتاج العملية التعليمية..باعتبار التعليم قناة استثمارية لها عوائد مادية مجزية وليس قناة خدمية استهلاكية.
9- سن أنظمة صارمة تحافظ على المعلم والمعلمة وتعزز من مكانتهما في المجتمع.
وأخيراً..إن أردتم تعليماً منتجاً يعول عليه فاجعلوا المعلم والمعلمة نصب أعينكم أولاً وثانياً وعاشراً..واهتموا بالجوانب الأخرى وفي مقدمتها المناهج..وإن اعتبرتم التعليم مجرد وظيفة مثله مثل غيره..فإنني سأحكم بكل ثقة..ومن الآن..وبخبرتي المتواضعة..على رؤية 2030 بالفشل التام.