تجارة الأراضي إلى أين؟
عبد
الحميد العمري
كان معتادا حتى وقت قريب انتهاء المزادات العقارية خلال أوقات قياسية، ببيع جميع الأراضي وبأسعار مغرية جدا خلال أقل من ساعة، وأحيانا أقل من ذلك الوقت، وعلى الرغم مما كانت تتضمنه تلك المزادات العقارية من مخالفات صريحة، تجاوز تأثيرها التضليلي حدود إيهام المجتمع والرأي العام بأن السوق العقارية تمر بحالة انتعاش ورواج غير مسبوقة، في محاولة يائسة لإنكار حالة الركود التي تخضع لها السوق منذ أكثر من عامين. تأكد ذلك التضليل بوجود أكثر من 90 في المائة من الصفقات العقارية للمزاد، التي تم الإعلان عنها والترويج الإعلامي والتسويقي اللاحق، بعدم توثيقها على موقع وزارة العدل ضمن الصفقات الفعلية للسوق!
ولأن الركود العقاري كان أقوى من مقاومة تجار الأراضي والسماسرة، فقد سقطت آخر ورقة توت بيد تجار الأراضي، المتمثلة هنا في
المزادات العقارية، التي طالما استخدمت كشعار ترويجي لنسج صورة غير حقيقية عن واقع ومستقبل السوق العقارية، بل لم يعد في الإمكان حتى الاستمرار في ممارسة تضليل عقد الصفقات، والمزايدة المصطنعة على الأسعار. فخلال الأسابيع الأخيرة؛ أظهرت مقاطع مصورة من داخل قاعات مزادات عقارية عديدة فشل إتمامها، بدءا من عدم قيام الجمهور القليل المشارك في تلك
المزادات بإعلان أي طلب، وصل مع إطباق الصمت على الجميع، إلى استجداء مدير المزاد الجميع بفتح المزاد حتى على الأسعار الابتدائية للمزاد، وقيامه بسرد وتكرار المزايا المتوافرة في المخطط من توافر خدمات ومرافق مكتملة وبنى تحتية أخرى، لكن لا أحد يجيب!
لقد اختفت "الثقة" لدى رواد تلك
المزادات من تجار الأراضي والسماسرة، اختفت مقارنة بحالة الضعف التي كانت مستترة إلى وقت قريب في
المزادات العقارية السابقة، وظهرت عيانا بيانا أمام الجميع، ولم يعد في مقدور تجار الأراضي والسماسرة إخفاؤها أكثر مما مضى، وهو ما كان مقدرا له أن يحدث على أرض الواقع، رغم كل المحاولات المضنية من قبل الأطراف العقارية لمنعها، أو على أقل تقدير تأجيلها قدر المستطاع.
أتى اختفاء "الثقة" لدى محترفي المتاجرة بالأراضي، نتيجة انعدام أي فرصة للصعود بالأسعار السوقية للأراضي مستقبلا، لم تعد السوق العقارية في الوقت الراهن مشابهة لسابق عهدها؛ التي كانت تنفض خلالها
المزادات العقارية على بيع مخططاتها بالكامل خلال أقل من ساعة لمجموعة من المتاجرين بالأراضي، سرعان ما تتضاعف أسعار تلك الأراضي في أيديهم خلال عام أو عامين، لتتحقق لهم مكاسب هائلة تؤهلهم للدخول مرات ومرات أخرى في مزادات عقارية أخرى، وسط أجواء احتفالية متكررة من مزاد إلى مزاد، وفي مسار تصاعدي لأسعار الأراضي والعقارات لم يعرف أو يعهد طوال تلك الفترة أي ضعف في قوته، يكفي فقط أن تتوافر لديك الأموال اللازمة للدخول في أي مزاد من تلك المزادات، لتقوم بشراء ما تستطيع من أراض، وأنت مملوء الثقة بارتفاع الأسعار بدءا من لحظة امتلاكك للأرض! لم تكن في حاجة إلى دراسات جدوى أو شهادات عليا، كل ما عليك فعله أن تحضر في تلك
المزادات العقارية وجيبك عامر بالأموال، تشتري اليوم وتبيع غدا بهامش سعري يفوق الأحلام، وتجني أرباحا طائلة لم تجنها كبريات منشآت القطاع الخاص.
ليست الحقيقة أو الصدمة التي يواجهها اليوم كل من أثري من تلك الفترة الذهبية عقاريا، أن هذا العهد الجميل قد ذهب بعيدا، ولا يعلم في ظل الظروف الراهنة اقتصاديا وماليا المعاكسة تماما للسابق، هل ستعود تلك الفترة الذهبية؟ ومتى ستعود؟ وإذا عادت هل ستكون على القدر ذاته من التوهج واللمعان العقاري السابق؟
إنما الحقيقة أو الصدمة الفعلية، التي كما يبدو أن "خبرة وتجربة" تجار الأراضي والسماسرة التي اعتادت على الربح فقط، لم تتمكن بعد من استيعاب أن أي سوق مهما كانت عقارا أو خلافه، كما أنها موعودة بالرواج والانتعاش وتحقيق الأرباح، أنها أيضا معرضة للركود والكساد وتحمل الخسائر، يؤكد مرارة هذه الصدمة وعمق تأثيرها لدى تجار الأراضي والسماسرة، خاصة حديثي العهد وصغار السن منهم، إنكارهم حتى تاريخه كل ما يجري من تطورات فعلية على أرض الواقع في السوق العقارية المحلية.
إنكار لم يعد يسمن أو يغني من جوع في وجه الانخفاضات المتتالية للسوق العقارية، التي جاءت نتيجة انهزام قوى الاحتكار والمضاربة على الأراضي، أمام متغيرات اقتصادية ومالية أكبر منها بكثير، هذا عدا الآثار الناتجة عن الإصلاحات الهيكلية العميقة الجذور للسوق العقارية من قبل الدولة، نتج عنه بداية عدم استمرار جدوى احتكار الأراضي بالنسبة لكبار الملاك، نتيجة لتلك التطورات الاقتصادية والمالية المعاكسة، ونتيجة لاقتراب تحصيل الرسوم على الأراضي البيضاء مع مطلع العام المالي المقبل، انعكس بدوره أيضا على المتعاملين العقاريين في السوق بدافع المضاربة، التي كانت تنشط تعاملاتها وصفقاتها على الأراضي طوال الأعوام الماضية.
معطيات أو تشوهات بمعنى أكثر دقة، تربحت منها السوق العقارية طوال عقود مضت، أخذت طريقها في وقتنا الراهن إلى العدم، التاجر الذكي هنا من بدأ بناء قراراته على الأسس والركائز الجديدة للاقتصاد والوطني عموما، وللسوق العقارية على وجه الخصوص، والتكيف مبكرا مع تلك الاتجاهات المتنامية، وإن تعرض لبعض الخسائر، التي تظل محدودة مقارنة بخسائر أكبر محتملة إن لم يتكيف مع تلك المتغيرات. في المقابل؛ سيتكبد التاجر المكابر، خسائر أكبر بكثير في المستقبل حتى مما ينكره بأرقام اليوم، وسيكتشف متأخرا جدا في الوقت الضائع، أن تجارة الأراضي لم تعد كما كانت، لكنه لم يدرك أو يفهم أو حتى يعترف بها إلا بعد فوات الأوان، وحينئذ لا مبالغة أن تأتي خسارته مضاعفة، نتيجة تأخر قراراته التي كانت مبنية على أي شيء إلا المعرفة الاقتصادية والمالية اللازمة. والله ولي التوفيق.