نقترح على الحكومة السعودية وتحديداً أمير الرؤية الشاب الفطن محمد بن سلمان أن يؤجل تنفيذ رؤيـة 2030 لمدة خمس إلى عشر سنوات قادمة على الأقل، وأن يُخضع مخرجات “ماكينزي” لمزيد من الدراسة والتمحيص من ثلاث جهات: المجتمع؛ والغرف التجارية؛ وإستشاريين محليين ودوليين مستقلين. ويمكن للحكومة، إن أرادت، الإستمرار في جزء من برنامج التحوّل الوطني لتحسين الأداء الحكومي. بعض المؤشرات تدل على أن ماكينزي لديه نموذج واحد مهمته تحويل الدول إلى فوضى غير خلاقة تحقق ما كانت تنادي به كونداليزا رايس وتجسد “الربيع العربي”. خفض دخل موظفي القطاع الحكومي الذي أقرته السعودية قبل أسبوع أثار شيء من الإنزعاج لدى المواطنين عند إعلانه، ويتوقع أن ينزعج المواطن أكثر وأكثر، عندما تكتمل قائمة الإجراءات التقشفية؛ وتزداد الرسوم؛ ويتم رفع الدعم؛ وتُفرض الضرائب؛ وتبدأ الخصخصة. تأجيل تنفيذ رؤية 2030 وإعادة دراستها بحسب المتغيرات الإستراتيجية والجيوسياسية والإقتصادية والأمنية المستجدة سيساعد على نجاح الرؤية بأقل خسائر أو نتائج غير محسوبة أو متوقعة. مع العلم أن نجاح رؤية 2030 يعتمد بشكل أساسي على بيئة سياسية وأمنية وعلاقات دولية متميزة. ولذا، فإن الشجاعة المأمولة من أمير الرؤية أن لا يستنكف من تأجيل تنفيذ الرؤية لما فيه المصلحة العامة.
تعمل ماكينزي بأسلوب مريب يبدأ بفكرة الخصخصة الذي ظهر وإنتشر مع مارجريت ثاتشر، رئيسة الوزراء البريطانية في الثمانينات، وإبنها مارك رجل الأعمال الجدلي. وبالرغم من متانة المجتمع الإقتصادي والسياسي البريطاني الإ أن ثاتشر، واجهت الكثير من الإعتراضات والمظاهرات وتمكنت مارغريت ثاتشر حينها من كسر تلك الإعتراضات بالقوة حتى أنها وصفت بـ “المرأة الحديدية” ومن ثم إبتدعت حرب “الفوكلاند” لجمع المجتمع خلفها وتعويض مافقدته من شعبية، كما تفعل الحروب الخارجية في العادة. بعدها قامت بتقديم الإنتخابات لإستغلال الشعبية والجماهيرية التي نشأت بفعل حرب زائفة أعادت للمواطن الإنجليزي شيئاً من كبريائه المصطنع. من ناحية أخرى، الخصخصة نجحت نسبياً في الغرب نظراً لطبيعة النظم السياسية والإقتصادية والإجتماعية، لكن نجاحها في دول أخرى مشكوك فيه، وخصوصاً في المنطقة العربية حيث تنعدم الشفافية والديموقراطية والمشاركة السياسية ويكثر الفساد والمحسوبية.
تمكنت ماكينزي مع مطلع الألفية الثانية أن تدرس التحولات العالمية فإتجهت إلى بلاد العرب لتقديم حلم ورؤية مابعد النفط، بدءاً بالبحرين الدولة الصغيرة التي ترقد بأمان في مياه الخليج العربي وتعاونت الشركة حينها مع الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة، إبن حاكم البحرين، لتحقيق طموحاته في التحديث، وكانت البحرين أول دولة عربية تحمل “رؤية البحرين الإقتصادية 2030”. حسناً، لم يطل الأمر بماكينزي حتى إنتقلت إلى أبوظبي لتقدم رؤية إلى الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، إبن الحاكم، الذي يطمح أيضاً لتحديث أبوظبي المتأخرة بعض الشيء عن شقيقتها دبي، فقدمت ماكينزي لأبوظبي خطة تحت مسمى رؤية إقتصادية 2030. إنتقلت بعدها الشركة إلى ليبيا وتعاونت مع سيف الإسلام معمر القذافي، إبن حاكم ليبيا، الذي كان ناشطاً في المجالين السياسي والإقتصادي. ثم إتجهت إلى مصر لتتعاون مع جمال حسني مبارك، إبن حاكم مصر، وقدمت له عدة رؤى بنفس الأرقام، ومن ثم إنتقلت إلى اليمن لتتعاون مع أحمد علي عبدالله صالح، إبن حاكم اليمن، وقدمت عدد من الأولويات لمستقبل وردي زاهر.
يمكن ملاحظة الخط المشترك في منهجية وعملاء ماكينزي المميزين: (1) أبناء الحكام من الشباب لما لهم من تأثير على صناعة القرار؛ (2) الدول النفطية لتسويق مرحلة مابعد النفط والإيهام بإيجاد بدائل وتنويع مصادر الدخل؛ (3) إعتماد الخصخصة، التي تشكل العمود الفقري في كل الخطط التي تقدمها الشركة؛ (4) إتخاذ عام 2030 موعد مشترك بين كل الرؤى لأسباب سياسية وإقتصادية ذات علاقة وثيقة بالنفط كطاقة والبدائل المزمع طرحها خلال هذه المدة. الأهم والأخطر، هو ملاحظة أن نتائج رؤى ماكينزي أدخلت البحرين في إضطرابات شعبية عارمة كادت أن تعصف بذلك البلد الهاديء المستقر في مياه الخليج، لولا عناية الله ثم حكمة ملك البحرين، وحكام الخليج. أما الإمارات فقد أدركت التبعات فتمهلت على مايبدو، لكن الوضع في ليبيا ومصر واليمن كان كارثياً. الأمر مبكراً بعض الشيء في السعودية، لكن بعض الإجراءات التي إتخذتها الحكومة حتى الآن توحي بأن خطة ماكينزي ذات طبيعة واحدة وليست سوى نسخ ولصق، مع تغيير طفيف في الأسماء والأرقام.
المثير والمُحيّر أن ماكينزي قامت بحيلة أو خدعة لكي تتمكن من السعودية وذلك بعمل تقرير مجاني، غير مدفوع الثمن، خلال عام 2014 (يا لله العجب) ترى فيه ماكينزي ان الوصول لهدف إقتصاد سعودي قوي ومنافس في عام 2030 يتطلب أن تركز السعودية على ثلاثة محاور: الأول، (3) توجهات؛ الثاني، (8) قطاعات غير نفطية؛ الثالث (3) ركائز تحول. حسناً، دعونا نتأمل سريعاً المحور الأول فقط ذو التوجهات الثلاثة: الأول، مضاعفة الناتج المحلي الإجمالي GDP في العام 2030؛ التوجه الثاني، (6) ملايين وظيفة بحلول العام 2030؛ التوجه الثالث، ضخ إستثمارات قدرها (4) تريليون دولار (معظمها من القطاع الخاص) في القطاعات الغير نفطية. وهنا يكمن الفخ المـاكينـزي، يكمن ماذا؟الفخ المـاكينـزي. سال لعاب المسئولين في السعودية لهذه الأرقام الفلكية والأحلام الوردية، ووقعت وزارة الإقتصاد والتخطيط، أو أوقعت نفسها في شراك الفخ المنصوب. وولدت الرؤية التي لا نستغرب أن يقول عنها أميرها بحماس مطلق أن الطموحات فيها ستبتلع كل مشاكل البطالة والإسكان. ولمزيد من البحث، يمكن للمهتمين بالتفاصيل الإطلاع على تحليل جميل قدمته الباحثة السعودية عزيزة عبدالعزيز الخطيب بعنوان “قراءة في تقرير ماكينزي/ السعودية 2030” تم نشره في ديسمبر 2015.
من جهة أخرى، تقول الكاتبة سوسن الشاعر في مقال بعنوان “السعودية والبحرين وماكينزي بينهما” أن عشر سنوات مضت على إطلاق ورشة ماكينزي، وسبع سنوات على تدشين رؤية 2030، يفترض “أننا قطعنا نصف الطريق لها إنما ذلك لم يحدث، تعثرنا كثيراً، وأفرغت معظم التوصيات من جوهرها، شاب تجربتنا الكثير من العقبات يجب أن لا تمر سدى ولا نستفيد من أخطائنا، أو لا تستفيد منها المملكة العربية السعودية منها.” وهذا يعني أن ماكينزي فشلت في البحرين بالرغم من أن الإصلاحات الإقتصادية، التي إقترحتها ماكينزي، سبقها إصلاحات سياسية حقيقية، كما تجادل الكاتبة، فقد “شكلت نقلة نوعية على المستوى العربي والإقليمي؛ مجلس نيابي منتخب؛ ومجالس بلدية منتخبة؛ ومحكمة دستورية؛ وثلاث درجات للتقاضي؛ وزيادة في عدد الصحف وتنوعها؛ وتشكيل أحزاب سياسية؛ ونقابات؛ وطفرة عددية في مؤسسات العمل المدني .. و .. و” بإختصار تقول الكاتبة سوسن: “كانت منصات الإقلاع جميعها جاهزة ولكن حدث خلل؟ أين؟ تلك هي الحكاية، تلك هي الرواية”. (الشرق الأوسط، 3 يناير، 2016)
يمكن لأي مراقب لسيرة ماكينزي في بلاد العرب، بصرف النظر عن سمعة الشركة الدولية الجدلية التي يطغى عليها، أحياناً، الصور الوردية التي يتم رسمها كخطط إنقاذ من أوضاع تمعن في تصويرها باليائسة مع تناقص البدائل مع مبالغة في النتائج. نقول يلاحظ أن منهج ماكينزي يتسلل للدول من أعلى الهرم، وفي ذات الوقت، يفتقر إلى أبسط الأمور وهي دراسة المجتمع الحقيقي وتوقعاته في أسفل الهرم. فأما يصار إلى بيانات ومعلومات غير دقيقة تقدمها جهات معينة ومعنية ومختارة في الحكومة ويتم على أساسها وضع الرؤية، ولذلك تفشل؛ أو تقوم تلك الجهات المعيّنة والمعنية والمختارة بذر الرماد في العيون وإجراء حوار صوري مع نماذج منتقاة يتم تحديدها وإختيارهابعناية فائقة من تكتلات مجتمعية لكي يسهل إقناعها والهيمنة عليها بوسائل متعددة، وأيضا تفشل. ولذا تأتي خطط ماكينزي منقوصة ومفبركة مما يؤدي بها إلى الفشل ويحيل المجتمع المتلقي إلى فوضى. تجارب ماكينزي في البحرين وليبيا ومصر واليمن التي خلقت هوة وفجوة بين مجتمعات تلك الدول وحكوماتها جديرة بالدراسة وأخذ الحذر وعدم السير خلف مقولة أن ما جرى لغيرنا لن يندرج علينا، أو بإختصار “نحن غير”.
عندما تنطلق الرؤى من الخارج الى الداخل أو من الأعلى إلى الأسفل كما هو الحال في ماكينزي ورؤية 2030 تصاب الخطة بعجز Descripency في التنفيذ يتجلى في عنصرين رئيسين: (1) عدم الموائمة بسبب قدومها من الخارج، وبالتالي الرفض من الداخل ولو كان مبطناً؛ (2) صعوبة التنبؤ بأسباب الفشل Unpredictability of Failure لتعدد وتنوع المجتمع. ولذا نجادل بأن رؤية إقتصادية للسعودية يجب أن تنجح وأن تهيأ لها كافة ظروف النجاح بعد عقود من الإتجاه الأحادي للحكومة من الأعلى للأسفل، مما يعني أهمية أن تولد الرؤية في بيئة مناسبة يتكامل فيها الجانب السياسي والإجتماعي والثقافي مع الإقتصادي في الداخل، والظروف السياسية والدولية في الخارج. أهداف رؤية 2030 وردية وجميلة وهذا ما يولد شعور بالإحباط بأن مثل تلك الأهداف الجميلة لن تتحقق اذا ما تمت بالأسلوب السائد في الماضي. إشراك المجتمع بكل أطيافه وطوائفه في المسئولية هو الطريق الأسلم والأنجع لنجاح أي عمل بدلاً من إستفراد الحكومة.
يجادل الكاتب خالد السليمان في برنامج “الأسبوع في ساعة” بأن الإصلاح الإقتصادي أو المالي يجب أن يبدأ (1) بمكافحة الفساد ومحاربة الفاسدين والمفسدين؛ (2) إستعادة الأموال المنهوبة وتمحيص الثروات المشبوهة؛ (3) مراجعة المشاريع المتعثرة ومراجعة كثير من مشاريع الحكومة المبالغ في تقديرها؛ (4) مراجعة مخصصات بعض الفئات والأسر في المجتمع بكل جرأة وشجاعة ذات الموازنة الضخمة والتي منها ماهو متوارث من عشرات السنين. كما يؤكد الكاتب السليمان، أن ذلك كفيل بالتوفير على الدولة الشيء الكثير لربما يزيد على ماتم توفيره من إقتطاع بدلات ومزايا الموظفين، أو مما ستجنيه الدولة من بعض الضرائب والرسوم التي تسعى الآن معظم الأجهزة الحكومية وتتسابق على فرضها على المواطنين. عندها يقول الكاتب السليمان، سيتم إرسال رسالة واضحة للمواطن ان الأولوية ليست أنك أنت (أيها المواطن) ستكون مصدر الدخل والتعويض للدولة. ويختتم خالد السليمان بشرط هام: بأنه في حال الإقتطاع من دخل الموظف أو فرض رسوم أو ضرائب يجب خلق منظومة مراقبة مستقلة بعيد عن الحكومة التي لا يتفق مع المنطق أنها-أي الحكومة- تراقب نفسها. (برنامج الأسبوع في ساعة، روتانا، 1 أكتوبر 2016)
أخيراً، رؤية 2030 فيها الكثير من الثقوب والعيوب، فالوضع الدولي والإقليمي والمحلي غير مهيأ لرؤية 2030 البتة من النواحي الإستراتيجية والسياسية والجيوسياسية والإقتصادية والثقافية، ولا يضير السعودية أن تؤجل التنفيذ خمس أو عشر سنوات قادمة حتى تهدأ الأحوال وتتغيَّر الظروف الدولية والإقليمية. وحتى يتم ذلك، يمكن بشيء من الشجاعه المعهودة عند أمير الرؤية، عودة دخل المواطن كما كان أو زيادته؛ والأخذ بالنقاط التي ذكرت سابقاً؛ وتخفيض جزء كبيرمن النفقات على العلاقات الخارجية؛ وترشيد المصروفات على صفقات الأسلحة التي يرى البعض أنه مبالغ فيها. كما أثبتت التجارب السياسية أن الجمع بين نشاط سياسي محموم في الخارج، ونشاط تنموي حاد في الداخل يصيب كثير من الدول بـ “الإجهاد السياسي” Political Fatigue. من ناحية أخرى، لم يعبأ ماكينزي بما حدث في البحرين أو ليبيا أو مصر أو اليمن ولا يهمه أن تتحوَّل تلك الدول الى فوضى، ولو تم سؤال الشركة عن المسئولية سيقدمون أعذاراً واهية ويذرفون دموع التماسيح حتى نهاية العام 2030. ختاماً، نقدم إلى ولاة أمرنا رأينا، وإلى أمير الرؤية النقد الذي طلبه، فإن كان في ذلك صواب فلله اللحمد والمنة، وإن أخطأنا فنستغفر الله ونحمده أيضاً، وفي كل الأحوال ليس لولاة أمرنا منا سوى الدعاء والولاء والسمع والطاعة. حفظ الله الوطن