إذا كنت ترغب في زيادة إيمانك ؟
فما عليك سوى الاستلقاء على ظهرك – بشرط أن تضع إحدى رجليك على الأخرى – ثم تقرأ فصولاً من كتاب مفتاح دار السعادة لابن القيم ( أفضل طبعاته بتحقيق علي بن حسن . طبعة دار ابن عفان )
ولكن عليك أن تقرأ بتمعن وتفكـر .
فإن لم يكن الكتاب لديك فإني أختصر لك المشوار وأقتطف لك منه مقتطفات وأجني لك منه ثمرات .
قال ابن القيم – رحمه الله – :
قال الله تعالى : {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً }
فسبحان من ألبسه خلع الكرامة كلها من العقل والعلم والبيان والنطق والشكل والصورة الحسنة والهيئة الشريفة والقَـدّ المعتدل واكتساب العلوم بالاستدلال والفكر واقتناص الأخلاق الشريفة الفاضلة من البِرّ والطاعة والانقياد .
فكم بين حاله وهو نطفة في داخل الرحم مستودع هناك ، وبين حاله والملك يدخل عليه في جنات عدن ؟؟ فتبارك الله احسن الخالقين .
فالدنيا قرية ، والمؤمن رئيسها ، والكل مشغول به ساع في مصالحه ، والكُلّ قد أُقيم في خدمته وحوائجه فالملائكة الذين هم حملة عرش الرحمن ومن حوله يستغفرون لـه ، والملائكة الموكّلون به يحفظونه ، والموكلون بالقطر والنبات يسعون في رزقه ويعملون فيه ، والأفلاك سُخِّرَت منقادة دائرة بما فيه مصالحه والشمس والقمر والنجوم مسخرات جاريات بحساب أزمنته وأوقاته وإصلاح رواتب أقواته ، والعالم الجوي مسَخّر له برياحه وهوائه وسحابه وطيره وما أُودع فيه ، والعالم السفلي كله مسخّر له مخلوق لمصالحه : أرضه وجباله وبحاره وأنهاره وأشجاره وثماره ونباته وحيوانه وكل ما فيه كما قال تعالى : {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمْ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }
وقال تعالى :
{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الأَنهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ }
فالسائر في معرفة آلاء الله وتأمُّل حكمته وبديع صفاته أطول باعا وأملأ صُواعا من اللصيق بمكانه المقيم في بلد عادته وطبعه راضيا بعيش بني جنسه لا يرضى لنفسه إلا أن يكون واحدا منهم يقول : لي أسوة بهم !
وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر .........................
وليست نفائس البضائع إلا لمن امتطى غارب الاغتراب ، وطوّف في الآفاق حتى رضى من الغنيمة بالإياب فاسْتَلان ما استوعره البطّالون ، وأنِسَ بما استوحش منه الجاهلون .
قال – رحمه الله – :
أعِـدِ النظر في نفسك وحكمة الخلاّق العليم في خلقك ، وانظر إلى الحواس التي منها تُشرِف على الأشياء كيف جعلها الله في الرأس كالمصابيح فوق المنارة لتتمكن بها من مطالعة الأشياء ، ولم تُجعل في الأعضاء التي تمتهن كاليدين والرجلين فتتعرض للآفات بمباشرة الأعمال والحركات ، ولا جعلها في الأعضاء التي في وسط البدن كالبطن والظهر فيعسر عليك التلفت والاطلاع على الأشياء ، فلما لم يكن لها في شيء من هذه الأعضاء موضع كان الرأس أليق المواضع بها وأجملها ، فالرأس صومعة الحواس !!
ثم تأمل الحكمة في أنْ جعل الحواس خمساً في مقابلة المحسوسات الخمس ليلقى خمسا بخمس كي لا يبقى شيء من المحسوسات لا يناله بِحَاّسة .
فجعل البصر في مقابلة المبْصَرات
والسمع في مقابلة الأصوات
والشمّ في مقابلة أنواع الروائح المختلفات
والذوق في مقابلة الكيفياّت المَذُوقات
واللمس في مقابلة الملموسات
فأي محسوس بقي بلا حاسة ؟؟
ولو كان في المحسوسات شيء غير هذه لأعطاك له حاسة سادسة
ولما كان ما عداها إنما يُدرك بالباطن أعطاك الحواس الباطنة وهي هذه الأخماس التي جرت عليها السنة العامة والخاصة حيث يقولون في المفكر المتأمل ضرب أخماسه في أسداسه !!
فأخماسه حواسه الخمس وأسداسه جهاته الست
وأرادوا بذلك انه جذبه القلب وسار به في الأقطار والجهات حتى قلّب حواسه الخمس في جهاته ألست وضربها فيها لشدة فكره .
ثم قال :
فصل :
ثم أُعينت هذه الحواس بمخلوقات أُخر منفصلة عنها تكون واسطة في إحساسها .
فأُعينت حاسّة البصر بالضياء والشعاع ، فلولاه لم ينتفع الناظر ببصره ، فلو مُنِعَ الضياء والشعاع لم تنفع العين شيئا .
وأُعينت حاسة السمع بالهواء يحمل الأصوات في الجو ثم يلقيها إلى الأذن فتحويه ثم تقلبه إلى القوة السامعة ، ولولا الهواء لم يسمع الرجل شيئا .
وأُعينت حاسّة الشمّ بالنسيم اللطيف يحمل الرائحة ثم يؤديها إليها فتدركها ، فلولا هو لم تشمّ شيئا .
وأُعينت حاسّة الذوق بالريق المتحلل في الفم تدرك القوة الذائقة به طعوم الأشياء ، ولهذا لم يكن له طعم لا حلو ولا حامض ولا مالح ولا حَرِيف ( لاذع ) لأنه كان يُحيل تلك الطعوم إلى طعمه ، ولا يحصل به مقصوده .
وأُعينت حاسّة اللّمس بقوة جعلها الله فيها تدرك بها الملموسات ، ولم تحتج إلى شيء من خارج بخلاف غيرها من الحواس ، بل تدرك الملموسات بلا واسطة بينها وبينها ؛ لأنها إنما تدركها بالاجتماع والملامسة فلم تحتج إلى واسطة .
انتهى كلام ابن القيم - رحمه الله - .
وصدق الله :
{وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ }