قال ابن القيم – رحمه الله – ضمن وجوه فضل العلم وطلبه:
الوجه التاسع والعشرون بعد المائة: ما رواه كُميل بن زياد النخعي، قال: أخذ علي بن أبي طالب رضي الله عنه بيدي فأخرجني ناحية الجبّانة، فلما أصحَرَ جَعَلَ يتنفس، ثم قال: « يا كميل بن زياد القلوب أوعية فخيرها أوعاها للخير، أحفظ عني ما أقول لك:
الناس ثلاثة:
1- فعالم رباني،
2- ومتعلم على سبيل نجاة،
3- وهمج رعاع، أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق.
فالأول: العالم الرباني،
والثاني: هو المتعلم على سبيل النجاة.
الثالث: وهو الهمج الرعاج.
فالأول: هو الواصل، والثاني: هو الطالب، والثالث: هو المحروم.
والعالم الرباني: قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو المعلِّم، أخذه من التربية، أي: يربى الناس بالعلم ويربيهم به كما يربى الطفل أبوه. وقال سعيد بن جبير: هو الفقيه العليم الحكيم...
ولا يوصف العالم بكونه ربانيا حتى يكون عاملا بعمله معلما له.
فهذا قسم.
والقسم الثاني: متعلم على سبيل نجاة؛ أي: قاصداً بعلمه النجاة، وهو المخلص في تعلمه، المتعلم ما ينفعه، العامل بما علمه، فلا يكون المتعلم على سبيل نجاة إلا بهذه الأمور الثلاثة؛ فإنه إن تعلم ما يضره ولا ينفعه لم يكن على سبيل نجاة، وإن تعلم ما ينتفع به لا للنجاة؛ فكذلك، وإن تعلمه ولم يعمل به لم يحصل له النجاة، ولهذا وصفه بكونه على السبيل أي: على الطريق التي تنجيه؛ أي: مفتش متطلع على سبيل نجاته، فهذا في الدرجة الثانية وليس ممن تعلمه ليمارى به السفهاء أو يجارى به العلماء أو يصرف وجوه الناس اليه فإن هذا من أهل النار كما جاء في الحديث ... فهؤلاء ليس فيهم من هو على سبيل نجاة، بل على سبيل الهلكة نعوذ بالله من الخذلان.
القسم الثالث : المحروم المعرض؛ فلا عالم، ولا متعلم، بل همج رعاع، والهمج من الناس حمقاؤهم وجهلتهم، وأصله من ( الهمج ) جمع ( همجة ) وهو ذباب صغير كالبعوض يسقط على وجوه الغنم والدواب وأعينها فشبه همج الناس به، ومعناه سوء التدبير في أمر المعيشة ، والرعاع من النساء الحمقى الذين لا يعتد بهم...
وقوله: «أتباع كل ناعق» أي: من صاح بهم ودعاهم تبعوه، سواء دعاهم إلى هدى أو إلى ضلال، فإنهم لا علم لهم بالذي يدعون إليه أحقٌّ هو أم باطل؟ فهم مستجيبون لدعوته، وهؤلاء من أضر الخلق على الأديان، فإنهم الأكثرون عدداً، الأقلون عند الله قدراً، وهم حطب كل فتنة، بهم توقد ويشب ضرامها فإنها يعتزلها ألو الدين، ويتولاها الهمج الرعاع.
وسمى داعيهم ناعقاً تشبيها لهم بالأنعام التي ينعق بها الراعي فتذهب معه أين ذهب!
وهذا الذي وصفهم به أمير المؤمنين هو من عدم علمهم وظلمة قلوبهم، فليس لهم نور ولا بصيره يفرقون بها بين الحق والباطل، بل الكل عندهم سواء.
وقوله رضي الله عنه: « يميلون مع كل ريح » وفي رواية: « مع كل صائح » شبّه عقولهم الضعيفة بالغُصن الضعيف، وشبه الأهوية والآراء بالرياح، والغصن يميل مع الريح حيث مالت، وعقول هؤلاء تميل مع كل هوى وكلِّ داعٍ، ولو كانت عقولاً كاملة كانت كالشجرة الكبيرة التي لا تتلاعب بها الرياح.
وهذا بخلاف المثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمن بالخامة من الزرع، تفيئه الريح مرّة وتقيمه أخرى، فهذا ضُرب للمؤمن وما يلقاه من عواصف البلاء والأوجاع والأوجال وغيرها.
وأما مع الأهواء ودعاة الفتن والضلال والبدع، فكما قيل:
تزول الجبال الرّاسيات وقلبه *** على العهد لا يلوي ولا يتغير
وقوله رضي الله عنه: «لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق» بيّن السبب الذي جعلهم بتلك المثابة؛ وهو أنه لم يحصل لهم من العلم نور يفرقون به بين الحق والباطل، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ﴾ وقال تعالى: ﴿ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا﴾ وقوله تعالى: ﴿ يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ الآية، وقوله: ﴿وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا ﴾ فإذا عدم القلب هذا النور صار بمنزلة الحيران الذي لا يدري أين يذهب! فهو لحيرته وجهله بطريق مقصوده يؤم كل صوت يسمعه، ولم يسكن قلوبهم من العلم ما تمتنع به من دعاةِ الباطل، فإن الحق متى استقر في القلب قوي به وامتنع مما يضره ويهلكه، ولهذا سمى الله الحجة العلمية سلطانا.
فالعبد يؤتى من ظلمة بصيرته ومن ضعف قلبه، فإذا استقر فيه العلم النافع استنارت بصيرته وقوى قلبه وهذان الأصلان هما قطب السعادة اعني العلم والقوة.
وهؤلاء ليسوا من أهل البصائر الذين استضاؤا بنور العلم، ولا لجئوا إلى عالم مستبصر فقلدوه، ولا متبعين لمستبصر، فإن الرجل إما أن يكون بصيراً أو أعمى متمسكا ببصير يقوده، أو أعمى يسير بلا قائد!.