شتات الفكر وإبحار القلب والعقل في أودية الدنيا التي لا منتهى لها ولا قرار عذاب مسلّط على الراكضين خلف الجمع أيًا كان نوعه: جمع مال، أو جمع مكانات، أو جمع أناس.
وهذا الركض وإن كان سببًا فالأسباب قد تعطلها موانع تودي بصاحبها إلى أن يخسر أكثر مما يربح، ويتمنى في النهاية أن يكون قد رضي من الغنيمة بالإياب، ولم يغب عن بال الأولين هذا المعنى، فقد قال العامة: يا ابن آدم لو تجري جري الوحوش غير رزقك ما تحوش.
ومشكلة هذا الجمع: أنه إن لم يحصل فقد ضاع العمر والمال والصحة في جمع السراب، وإن حصل تحاوشته الأكدار من كل جانب، فالإنسان يغالب الحياة التي
طبعت على كدر وأنت تريدها *** صفوًا من الأقذاء والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها *** متطلب في الماء جذوة نار
فكل لذة لها ضريبتان: ضريبة قبلية وضريبة بعدية، واختصر هذا المعنى سفيان الثوري بقوله: " ما أعطي رجلٌ من الدنيا شيئاً إلا قيل له: خذْه ومثله حزناً "
فقبل الجمع هم التحصيل وخوف الفوات، وبذل المال والوقت، وكدّ الجسم، وإرهاق النفس، وبعد الجمع خوف الزوال أو النقص وتكاثر الحاسدين وتزلف المنافقين وصيرورة الجامع مرمى للأعين، وغرضًا للسهام
وإنه لتمرّ بالإنسان بعض السويعات التي يعجز فيها أن يتأمل ويدقق، ويمضي الوقت وهو يغالب نفسه ليستجمع شتات فكره ويرتّب ذاكرته وتركيزه.
ولو أنعم النظر في كثير من هذه المشتتات لوجدها حرصًا يأكل العمر ولا يخلف إلا الرماد.
ولو طبق القاعدة القائلة: احتج أقل ترتح أكثر، لغنم عمره ووقته وعقله وصحته وماله.
فيا قلبًا قد تفرق فتمزق، ويا عقلاً قد غمرته الهواجس والخطرات من إدامة النظر وتقليب الفكر فيما لا طائل من ورائه، أقصر فإن العمر قصير، وركّز في تحديد هدفك، ثم امض إليه بانسيابية لا تتوقف.