عندما غزا الصليبيون العالم الإسلامي واحتلوا بلاد الشام وأسسوا إماراتهم فيها صمدت مصر أمام المد الصليبي، وفشلت فيها أهم الحملات الصليبية وهي الحملة السابعة التي قادها الملك الفرنسي لويس التاسع، وأثخن المصريون والشاميون في الصليبيين، وأسر لويس التاسع قائد الصليبيين، وسجن في المنصورة، وبعد هذه المعركة تقهقر أمر الصليبيين، وتوالت هزائمهم حتى دحروا.
وعندما اجتاح التتر بلاد المسلمين من خوارزم إلى بغداد، وأسقطوا الخلافة العباسية، ولم يقف في وجوههم شيء دُحروا على يد المصريين في عين جالوت، وأدبر أمرهم بعد ذلك.
وعندما سير نابليون حملته الاستعمارية على مصر في أواخر القرن الثامن عشر تصدى المصريون لهذه الحملة حتى أخرجوا الفرنسيين، وخلفهم الانجليز في القرن التاسع عشر وقاومهم المصريون حتى أخرجوهم. فاقتنع الصليبيون أن المسلمين لا يتم غزوهم من الخارج؛ لأن جذوة الجهاد تشتعل فيهم حتى تحرق المحتل الغازي، واقتنعوا أن مصر هي بوابة العالم العربي، وأن إفساد مصر كفيل بنشر الفساد في العالم العربي كله، وهذا ما كان في مصر عقب الاحتلالين الفرنسي ثم الإنجليزي؛ حيث الغزو بالقوة الناعمة بإعادة قراءة الإسلام من جديد، وإزالة الحواجز العقدية والفكرية والأخلاقية بين المؤمن والكافر، وحركة تحرير المرأة المسلمة من القيود الشرعية وجعلها كالغربية، وتبديل القضاء بإحلال القانون الوضعي محل الحكم الشرعي؛ وحيث بداية التصوير والتمثيل والسينما والغناء، وإغراق الناس بالشهوات، ومن مصر صُدِّر الإنحراف إلى العالم العربي كله؛ فصلاح مصر صلاح العالم العربي، وفسادها فساده، وقوتها قوته، وضعفها ضعفه. ولم يُحرر بيت المقدس من الاحتلال الصليبي إلا لما حررت مصر من حكم العبيديين الباطنيين، ولما احتله اليهود في القرن الماضي ما خافوا إلا من مصر، وركزوا جهودهم عليها حتى ظفروا باتفاقية كامب ديفد؛ ليحيدوا مصر عن الصراع، وبها تنفس اليهود الصعداء.
إن مصر لما كانت صالحة صدرت للعالم العربي والإسلامي العلماء والدعاة والمصلحين والمدرسين حتى غصت بهم المدارس والجامعات، وصدرت الكتب النافعة في شتى العلوم والمعارف حتى قيل: مصر تؤلف، ولبنان تطبع، والعراق يقرأ. ثم لما أفسدها العلمانيون بمعونة اليهود والنصارى صدّرت الفساد والانحلال في الأفلام والمسلسلات والكتب والمجلات. وظل الفساد مهيمنا على مصر طيلة القرن الماضي حتى جاءت الثورة المباركة فاقتلعت رأس الفساد وربانه لكن بقيت جذوره منتشرة في أجهزة الدولة تبث سمومها وأوبئتها، وتنشر أوساخها وقذارتها، والشعب المصري والعالم العربي من ورائه لن يجنيان شيئا من الثورة إذا كان الرأس صالحا في جسد مريض بات عشرات السنين يُحقن بالأوبئة. إن عملية تنظيف قذارات العلمانيين في مصر من قوميين ويين وناصريين وليبراليين ومتصهينين ومتأمركين تحتاج إلى وقت طويل وتضحيات جسيمة، وغالبا ما يكون قتلى ما بعد الثورة أكثر من قتلى الثورة. وقاذورات الأنظمة السابقة متجذرة ومتمكنة، واقتلاعها يجلب الألم لكن لا بد منه. وهذه القاذورات المتجذرة في الجسد المصري حقودة على الشعب المصري ولو ابتسمت له في الكاميرات؛ لأنه رفضها واختار عدوها، فتود الانتقام منه، وعندها استعداد أن تفني الشعب المصري لو قدرت على ذلك، فلا يُستغرب منها محاولة نشر الفوضى وإفشال جهود الحكومة الجديدة للنهوض بمصر.
ويمكن تقسيم التحالف القذر للالتفاف على الثورة المصرية وخلق الفوضى في مصر إلى أقسام خمسة:
الأول: فلول النظام السابق في أجهزة الدولة وخاصة القضاء, ودافعهم لذلك أمران: الإبقاء على نفوذهم وامتيازاتهم ونهبهم للشعب واستعباده، والخوف من فتح ملفات الفساد والنهب الذي كان سبب ثرائهم، ومن ثم محاكمتهم عليها.
الثاني: العلمانيون المضطهدون في النظام السابق؛ كالناصريين والشيوعيين؛ فإن مصر لما تحولت إلى الليبرالية في عهد السادات، وأخفق المشروع الناصري الاشتراكي نال من بقي منهم على المذهب السابق شيء من الأذى، وهؤلاء يريدون إعادة أمجاد عبد الناصر، ولا زالوا يحلمون بالفردوس الاشتراكي رغم انتهائه في دولته الأم.
الثالث: الأقباط؛ وذلك أن البابا الهالك شنودة الثالث أدخل الكنيسة المصرية في السياسة، وصارت طرفا لاعبا فيها للضغط على الحكومة لنيل امتيازات للأقباط، وعزز موقفه بعد رفضه مرافقة السادات لإسرائيل في زيارته لها بعد توقيع اتفاقية السلام معها.
وزاد قوته أقباط المهجر الذين يحرضون الدول الغربية والمنظمات الدولية على الحكومة المصرية، ويزعمون أنها تضطهد الأقباط، وهم في الواقع قد حظوا بما لم يحظ به المسلمون في مصر، غير أن لهم تطلعات لحكم مصر رغم أنهم أقلية في أكثرية مسلمة، وزاد من أحلامهم هذه فصل جنوب السودان؛ ولذا فهم يلوحون بالتقسيم.
الرابع: بعض الدول، خاصة ماخور الخليج فقد احتضنت بعض لصوص نظام مبارك وفلوله، ودافع هذه الدول الخوف من تمكن الإسلام الحركي أو السياسي؛ لأنه إن نجح في مصر واستقر له الأمر سيكتسح الدول كلها، ويكنس أقذارها، ويعيد للإسلام هيبته ومجده. وتسهم في ذلك أيضا مخابرات إسرائيل وأمريكا لأن حرب غزة الأخيرة أثبتت لليهود أن حماس ما بعد الثورة المصرية ليست كحماس ما قبلها، ولم يكن أداء مرسي رغم عدم تمكنه الكامل من السلطة كأداء نعل اليهود حسني مبارك؛ ولذا أوقف اليهود الحرب بعد أيام قليلة من إشعالها.
الخامس: أدعياء السلفية داخل مصر وخارجها، وبغض هؤلاء لما يسمى الإسلام الحركي أو السياسي -وخاصة الإخوان المسلمين- يجعلهم يتحالفون مع الشيطان، ويسبغون الشرعية على فرعون ولو ادعى الربوبية ما دام أن فيه مضرة على الإخوان والإسلام الحركي؛ ولذلك تحالفوا مع بشار النصيري، والقذافي العبيدي، ومع الليبراليين والعلمانيين، ووقت الانتخابات المصرية أجاز أحدهم باسم السلفية تولية القبطي على المسلمين، كرم الله تعالى منهج السلف الصالح عن رجس هؤلاء الخلوف.
ووقت الثورة كانت هذه المجموعات الخمس متباينة الموقف من الثورة بحسب مصالحها، فمنها المؤيد ومنها المعارض، لكن بعد بروز قوة المد الإسلامي الحركي ممثلا في الإخوان (خيرت الشاطر) والسلفيين (حازم أبو إسماعيل) وانقسام الشارع المصري بينهما دبر بقايا النظام السابق حيل إبعادهما، وأضفت لجنة الانتخابات شرعيةً على هذا الإبعاد بإبعاد عمر سليمان نائب مبارك الذي لن يفوز بأصوات شعب أسقط رئيسا هو نائبه ورجل مخابراته.
ثم لما حل محمد مرسي محل الشاطر وحازم، وبدت بوادر تقدمه في الاستفتاءات، احتشدت المجموعات الخمس آنفة الذكر خلف العلماني أحمد شفيق رئيس الوزراء في عهد مبارك، وهو متهم بقضايا فساد، ولكنه سقط وفاز مرسي رغم الدعم الكبير له من دول شتى، وهرب للإمارات ليعين مستشارا سياسيا لحاكمها، وهو ينفذ أجندته في الإمارات، ولن يكون إلا وبالا على أهلها، وسيفسدها كما أفسد في مصر، والتوتر الذي يعيشه الساسة في الإمارات مع الإخوان لم يأت إلا من مشورته على الأرجح، وبئس المشورة.
لقد كانت النية مبيتة للإجهاز على أي بادرة توصل الإسلام السياسي لكراسي الحكم في داخل مصر وخارجها؛ ولذا ضخت بعض دول الخليج أموالا ضخمة على أناس لا تساوي الأحذية التي تلبسها، لكنهم لم يفوزوا بشيء، ولم يثنوا الشعب المصري عن اختيار من يظنون أنه سيحكم بالإسلام، ويقيم العدل، ويقضي على الفساد، فقام الجيش المصري والمحكمة الدستورية بضربة استباقية قبيل الانتخابات حين حل مجلس الشعب المنتخب الذي هيمن على مقاعده الإسلاميون، وكان حله بقانون دستوري صنعته المحكمة للجيش لإعادة السلطة التشريعية للعسكر بحيث لا تجتمع للإسلام الحركي السلطتان التشريعية والتنفيذية فيما لو فاز مرسي بالانتخابات.
وأراد فلول النظام السابق أن يتسلم المرشح الإسلامي مرسي لو فاز بالسلطة حكما بلا حكومة، ورئاسة بلا صلاحيات؛ إذ سحب الجيش الصلاحيات من الرئيس؛ لإظهار الإسلام السياسي أمام الرأي العام المصري والعربي بالعاجز عن إدارة الحكومة، وتسربت معلومات للرئيس أن انقلابا عليه يدبره طنطاوي وعنان لكن وفق الله تعالى مرسي فعزل رأسي الفساد في الجيش في وقت ذهبي عجزا معه عن فعل شيء.
وبقي القضاء ورأسه النائب العام أقوى ما تبقى من فلول حسني مبارك، وتسربت معلومات أن انقلابا على شرعية الرئيس يدبره النائب العام عبد المجيد محمود، وأنه سيعيد طنطاوي وعنان، ويبطل قرار مرسي، فعزله الرئيس، وبعزله أطيح بنفوذ نصف فلول النظام السابق، فهي عملية تطهيرية فائقة للفساد المترسب في القضاء وما يحميه القضاء خارجه.
وكان الإعلان الدستوري الأخير ضربة موجعة للفلول لا تقلم أظفارهم وتحجم نفوذهم فحسب، بل تجعل كثيرا منهم محل الإدانة والمحاسبة؛ إذ كان من أهم بنوده مما يمس فلول النظام السابق إعادة محاكمة الضالعين في قمع الثوار وقتلهم سواء بالمباشرة أو بالأمر، وهذا من شأنه سيفضح عددا من المتربعين على كراسيهم ببدلاتهم الأنيقة، فيساقون من جاههم في دوائرهم الحكومية إلى المحاكمات والسجن. وفي ظني أن هذه هي القاصمة التي جن جنون الفلول من أجلها فسعوا بكل قوة ليتراجع مرسي عن الإعلان الدستوري، بل طالبوا بعزله وسعوا لإحداث الفوضى وإشعال العنف ومحاصرة قصر الرئاسة وبيت الرئيس ليضغط الناس على الرئيس فيتراجع. واستغل هذا الإعلان الموتورون المبغوضون عمرو موسى والبرادعي وصبحين وأعلنوا الثورة على الإعلان الدستوري بحجة أنه يكرس الدكتاتورية، وحشدوا إعلام مبارك ضد الرئيس وإعلانه الدستوري، وتسلحوا بالأكاذيب للفت من عضد مؤيدي الرئيس، لكن الملايين التي خرجت تؤيد الرئيس في إجراءاته الأخيرة زادت من جنون المعارضين الذين لم يستطيعوا أن يحشدوا إلا بضعة آلاف للمعارضة في مقابل ملايين مؤيدة، فما ثم إلا العنف والاستفزاز باستئجار المجرمين والبلطجية للتخريب والقتل، ومشاركة شباب الأقباط في التظاهر مع محو ما يدل على نصرانيتهم من ألبسة وصلبان؛ لتكثير سواد العلمانيين، وإيهان عزم الحكومة، وإقناع الشعب أن المعارضين كثيرون. وأموال القبطي سارويس مع أموال الفلول كأحمد عز مع الأموال المتدفقة من بعض دول الخليج تمول أحداث العنف التي نشاهدها هذه الأيام، لكنها ستبوء بالفشل بإذن الله تعالى، وقد أحسن الإسلاميون وخاصة الإخوان الذين قتل بعض أفرادهم وجرحوا حين لم يقابلوا العنف بالعنف، وفوائد ذلك فضح المعارضين للرئيس من فلول مبارك والمتأمركين والناصريين أمام الشعب المصري، وأن هؤلاء المتأنقين في الظاهر يتبنون العنف، وزيادة التعاطف مع الإسلام الحركي المنظم الذي لم يرد العنف بعنف مثله، وتفريغ غضب المعارضين من فلول مبارك والأقباط وأتباع البرادعي وصبحين وعمرو موسى بمثل هذه الأحداث إلى أن يتم الاستفتاء على الدستور، فيكون حالهم كحال القائل: أوسعتهم شتما وساقوا الإبل. وقد أعجبني وصف الليبرالي أحمد عبد الجواد -عضو الهيئة العليا لحزب غد الثورة- والذي فضح النائب العام وقضاته في مؤامرتهم على الرئيس، حين وصف عنف الفلول والأقباط وأتباعهم بأنه رقصة الموت.
ولطول هذه المقالة سأفرد الحديث عن الدروس المستفادة من الأحداث المصرية المتسارعة بمقالة خاصة إن شاء الله تعالى، والله تعالى أسأل أن ينصر الحق وأهله، وأن يكبت الباطل وجنده، إنه سميع مجيب.