تُقدّم السياسة التركية نفسها للعالم، وللعالم الإسلامي خصوصا، على أنها تقوم على المبادئ والأخلاق، ولئن كان هذا لا يهم الغربيين كثيرا فإن هذا هو رأس مالها الحقيقي لدى الشعوب الإسلامية، وبغيره لا تختلف تركيا أردوغان عن تركيا أتاتورك، ولم تكسب تركيا سمعتها في هذا العالم إلا بمواقفها من غزة ومصر وسوريا وبورما وتركستان الشرقية والصومال! وبعض من اهتم أكثر بالمتابعة يعرف لتركيا آياديها البيضاء في البلقان وفي رعاية النشاط الإسلامي في روسيا وجمهوريات الاتحاد السوفيتي والمدارس الإسلامية في أوروبا.
ولئن كان وصف “العثمانيين الجدد” يثير في أوروبا البغضاء، فإن ذات اللفظ يثير في العالم الإسلامي شوقا وحنينا لأيام المجد الغابرة.
ومن قرأ لأحمد داود أوغلو بالعربية فسيكون قد قرأ له ثلاثة كتب هي ما ترجم إلى العربية، تلك هي: “الفلسفة السياسية”، و”العالم الإسلامي في مهب التحولات الحضارية”، و”العمق الاستراتيجي”، وهذه الكتب الثلاثة على الترتيب تشرح ثلاثة أفكار رئيسية في السياسة التركية الجديدة هي:
النظام الإسلامي يتناقض جوهريا مع النظام الغربي ولا يمكن الالتقاء بينهما (الفلسفة السياسية).
الحضارة الغربية في مرحلة الإفلاس ولا يوجد في كل العالم بديل حضاري سوى البديل الحضاري الإسلامي (العالم الإسلامي في مهب التحولات الحضارية).
لا يمكن لتركيا أن تتبوأ موقعا في الساحة العالمية إلا بإعادة بعث هويتها الإسلامية وإسناد عبقرية موقعها الجغرافي بثقلها وعمقها التاريخي الذي لا يمكن تجاهله ولا تغييبه.
وهكذا، فالسياسة التركية قدَّمت نفسا “نظريا” و”عمليا” على أنها وريثة العثمانيين، حاملة القيم والمبادئ الحضارية، وصاحبة البديل الحضاري القادم.
هل ستخسر تركيا لو أعادت علاقاتها مع مصر اليوم؟
في ظل هذا كله.. ماذا لو أعادت تركيا العلاقات مع مصر في ظل نظام حكم السيسي؟
النتيجة الأولى والأهم: هي الخسارة الاستراتيجية لما ظلّت تبنيه نظريا منذ عشرين سنة وعمليا منذ أربع عشرة سنة، لأنها خسارة السمعة التي بُنِيَت أصلا على هذه المبادئ، هو انتصار للعلمانية الكمالية والمصالح المادية على البديل الموعود والمبادئ المرفوعة! وهي خسارة استراتيجية خطيرة، إنها في الحقيقة إعلان لفشل التجربة في الصمود أمام قواعد وإرادة النظام العالمي.
ثم هي خسارة مادية استراتيجية بحجم الجمهور الذي كان يرى تركيا موضع أمل، فيتوجه نحوها بالتجارة ورؤوس الأموال، أو بالابتكارات والاختراعات، أو بالسفر والسياحة والإقامة، أو حتى بشراء المنتجات التركية والتعامل مع المصانع والمؤسسات والشركات التركية… إلخ!
وهذا الفشل لتجربة “إسلامية” في هذا الظرف بالتحديد ليس إلا هدية تستثمرها جهتان: العلمانيون من جهة، والمتطرفون من جهة أخرى، وهو إثبات جديد لتهمة أن “حزب العدالة والتنمية” ليس إلا الطلاء الإسلامي لجوهر علماني قح، وأن من نفّذوا انقلاب 1980 و 1997 قد انتصروا في النهاية!
سيُقال: لا بد لكل دولة أن تبحث عن مصالحها، وفي السياسة لا مكان للمبادئ بل للمصالح، أو بالأحرى المصالح هي التي تحدد المبادئ بل إن المبادئ لا تستعمل إلا للتغطية على المصالح!
والجواب: إن هذا الكلام نفسه علماني شكلا ومضمونا، بينما النموذج الإسلامي يجعل المبادئ ذاتها هي المصالح، ولذلك يُعبِّر علماء الأصول عن المصلحة من حيث نظر الشرع لها فتصير بهذا الميزان: مصالح معتبرة، أو ملغاة، أو مرسلة.. وأحيانا يعبّرون عنها بألفاظ: مصلحة مُعْتَبَرة ومصلحة مُتَوَهَّمَة. فالمبادئ أو المقاصد الشرعية في الإسلام هي التي تحدد المصالح وتضبطها.. ولا يُصار إلى ارتكاب مفسدة إلا لدفع مفسدة أكبر منها، وهذه هي حالة الاضطرار والإكراه!
فهل تركيا مضطرة أو مكرهة لفتح علاقات مع مصر في ظل النظام العسكري؟
الجواب: ربما، لا سيما في ظل انتشار أخبار ضغوط سعودية باتجاه هذه المصالحة، وربما قيل بأن مصالح تركيا الاقتصادية والسياسية تنمو وتنتعش أكثر في ظل علاقات مع النظام المصري أيا كان هذا النظام، لا سيما إن كان هذا النظام قد استقر واستتبت له الأمور.
ولا ريب أن مثل هذه الأمور لا يمكن نقاشها فضلا عن حسمها في مقال، إلا أن المقال يتّسع للتذكير ببعض أمور لعلها تنفع صانع القرار:
أولا: من حيث وجود رغبة سعودية، فإنه مهما اختلف الرأي في شأن السعودية ومدى كونها حليفا يُعتمَد عليه، ومدى كونها تملك ضغطا حقيقيا على نظام السيسي.. مهما اختلف الرأي في هذا فإن قرارا كإعادة العلاقات مع نظام العسكر لن يكون نهاية العلاقات مع السعودية، فحاجة السعودية في هذه اللحظة لتركيا لا يمكن أن تتوقف عند هذا الموضوع، فكيف إذا كان القرار يحمل خسارة استراتيجية وفقدانا لسمعة تركيا لدى الشعوب المسلمة ولدى طلائعها الثورية والفكرية والاقتصادية والعلمية كذلك؟!!
ثانيا: من حيث وجود مصالح اقتصادية وسياسية، فينبغي أن يكون معلوما أن مساحة استقلال النظام المصري تقترب من الصفر، فهو ليس سوى واجهة للمصالح الإسرائيلية والأمريكية، ولهذا فإن تجديد هذه العلاقة لا يساهم في نمو المصالح التركية بقدر ما يضيف قيدا جديدا وسقفا جديدا إسرائيليا أمريكيا تدخل تركيا تحته.. النظام المصري لا يفكر في مصلحة البلد بحال، بل هو مجرد ذراع لا يمكن الوثوق به ولا البناء على العلاقات معه.