تنشغل الأوساط الاقتصادية على مستوى العالم هذه الأيام بالقرار المنتظر لبنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بخصوص سعر الفائدة والتأثير المتوقع على الاقتصاد الأميركي واقتصادات بقية الدول في ظروف اقتصادية لا يمكن وصفها بالعادية ما يجعل هذا الاهتمام مصحوباً بنوعٍ من التخوف والقلق. وحتى يفهم القارئ غير المتخصص في الاقتصاد، سر هذا الاهتمام والقلق من عواقب القرار المنتظر، لا بد من التذكير بالبديهيات التالية:
سعر الفائدة هو الكلفة التي يدفعها من يستخدم أموال الغير عن طريق الاقتراض. وكلما ارتفع سعر الفائدة ارتفعت كلفة الاقتراض وانخفضت أحجام السيولة في السوق.
قيمة الدولار ترتفع برفع سعر الفائدة عليه لانخفاض المعروض منه وترتفع كذلك العملات المرتبطة بالدولار لأن البنوك المركزية التي تصدرها تحذو حذو الفيدرالي الأميركي.
أسعار السلع المقومة بالدولار كالنفط والذهب والمعادن الثمينة وغيرها تنخفض بفعل ارتفاع قيمة الدولار، وقد يكون هذا الانخفاض ظاهرياً في حال ثبات العوامل الأخرى ومع ذلك يترتب على انخفاضها آثار سلبية.
ارتفاع قيمة الدولار يؤدي إلى انخفاض الصادرات الأميركية بسبب ارتفاع كلفتها ويكون ذلك في صالح الدول المصدرة ذات العملات الأخرى غير الدولار مثل دول الاتحاد الأوروبي واليابان والصين وغيرها.
العملات الأجنبية الرئيسية مثل اليورو والإسترليني والين وغيرها تنخفض مقابل الدولار وترتفع صادرات دولها كما قلنا وفي المقابل ترتفع أسعار مستورداتها إذا كانت بالدولار.
مؤشرات الأسواق المالية وأسعار الأسهم في أميركا والدول التي تربط عملاتها بالدولار تتجه إلى الانخفاض بسبب المخاوف من انخفاض أرباح الشركات وارتفاع تكاليفها والتخوف من ضعف النمو الاقتصادي.
تراجع أحجام السيولة بسبب رفع سعر الفائدة يؤدي إلى تراجع الطلب وانخفاض أرباح الشركات ما يدفعها إلى مراجعة خططها التوسعية وتخفيض أحجام استثماراتها وربما تخفيض نفقاتها ما ينعكس سلباً على النشاط الاقتصادي ونسب النمو.
هذه التفاعلات وغيرها يفترض نظرياً أنها تحصل نتيجةً لرفع سعر الفائدة بشرط ثبات العوامل والمتغيرات الأخرى السياسية والاقتصادية وهي كثيرة ومن الصعب تخيل ثباتها على أرض الواقع. وبالتالي فإن التفاعلات المذكورة يمكن أن تحدث كلها أو بعضها أو تحدث تفاعلات مغايرة لما هو متوقع نتيجةً لتفاعل العوامل التي لم تؤخذ بالحسبان. والسؤال الذي يتبادر إلى ذهن القارئ والمتابع: إذا كانت آثار ونتائج رفع سعر الفائدة الأميركية سلبية في مجملها وبعضها كارثي فلماذا يقدم بنك الاحتياطي الفيدرالي على هذه الخطوة؟
وللإجابة على ذلك نقول: إن سعر الفائدة الأميركية يقارب الصفر منذ العام 2008 وكان المقصود من التخفيض وقتها ضخ مزيد من السيولة في السوق كوسيلة للتغلب على تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية. وكان هذا الإجراء وغيره من الإجراءات التي اتخذتها البنوك المركزية العالمية تصب كلها في اتجاهٍ واحد وهو ضخ مزيد من السيولة في السوق سواء عن طريق ما سمي ببرنامج التيسير الكمي ويتمثل أساساً في شراء السندات الحكومية أو عن طريق تخفيض سعر الفائدة أو تخفيض نسبة الاحتياطي الإلزامي وغيرها من أدوات السياسة النقدية المعروفة للمتخصصين.
وقد لعبت عملية زيادة السيولة دور الدواء المسكّن لأعراض الأزمة لكنها لم تكن أبداً العلاج الشافي منها. وعندما سكّنت الأعراض ساد شعورٌ زائفٌ بأن الاقتصاد يتعافى وأن الأزمة تتلاشى. وهذا في رأيي ليس سوى وهم، فجذور الأزمة عميقة وأسبابها كامنة في هيكل الاقتصاد وأركانه الأساسية والمخاطر ما زالت قائمة وتنتظر الظرف المناسب أو المشكلة المناسبة حتى تنفجر الأزمة من جديد.
المهم أن البنوك المركزية تعتبر أن إجراءات ضخ السيولة في الأسواق وعلى رأسها سعر الفائدة المنخفض يجب أن تكون مؤقتة تؤدي دورها ثم تتوقف. ومن وجهة نظر الفيدرالي الأميركي فقد آن الأوان بعد ثماني سنوات لوقف الإجراءات المؤقتة والبدء بالرفع التدريجي لسعر الفائدة، فقد تم ضخ كمية هائلة من السيولة وشراء كم ضخم من السندات، وظهرت بعض مظاهر التعافي والانتعاش الاقتصادي مثل خلق ما يقارب 200 ألف وظيفة في الشهر وارتفاع مؤشر أسعار المستهلك إلى حدود 1.2 % مع أنها أقل من نسبة التضخم المستهدفة والبالغة 2%، وانخفاض في معدل البطالة إلى حدود 5% إضافةً إلى بعض الأهداف السياسية التي تتطلب ارتفاعاً في قيمة الدولار ويمكن الحديث عنها في مقال آخر. المهم أن هذه هي الأسباب التي تدفع بنك الاحتياطي الفيدرالي لاتخاذ قراره الذي بات شبه مؤكد في اجتماعه القادم يوم 16 ديسمبر/كانون الأول برفع سعر الفائدة على القروض التي يمنحها للبنوك التجارية. وهو على وعي تام بكل المخاطر والمحاذير التي تحدثنا عنها.
أما عن توقعاتنا للآثار التي سوف تترتب على بدء مسار رفع الفائدة فإننا نجملها في ما يلي:
لا نتوقع حدوث هزة قوية في أسواق الأسهم في الأيام الأولى بعد القرار. ذلك أن الأسواق تتحسب لهذا الأمر منذ سبتمبر/أيلول الماضي وقد أحدث هذا التحسب أثره السلبي وانخفضت المؤشرات بنسب متفاوتة. لكننا نتوقع حدوث تذبذب ملحوظ في المؤشرات مع ميل تدريجي للانخفاض بناء على الانعكاسات اللاحقة للقرار على النشاط الاقتصادي وأداء الشركات.
سوف يؤدي هذا المسار إلى تباطؤ تدريجي في النمو الاقتصادي في أميركا والدول التي تربط عملاتها بالدولار ما يفرض على هذه الدول اتخاذ إجراءات وتطبيق برامج تحول دون حصول الانكماش وتضمن تحقيق نسب النمو المستهدفة. وبخلاف ذلك فسوف يتفاقم خطر الانكماش وقد يصل إلى الركود في مدة أقصر مما حصل في الحالات السابقة عندما أطلق الفيدرالي مسار رفع الفائدة. وقد أظهرت المراجعة التاريخية التي أعلنها دوتشه بنك لنتائج دورات رفع الفائدة منذ العام 1955 ولغاية 2006 أن كل دورة منها أدت إلى الركود بعد عدة أشهر. أما في ظل الظروف الحالية للاقتصاد العالمي الذي ما زالت ظلال أزمة 2008 تخيم عليه فإن الركود إذا قدر له أن يقع فسوف يحتاج إلى الفترة الأقصر أو ما يقاربها.
سوف يؤدي ارتفاع قيمة الدولار نتيجة رفع سعر الفائدة إلى مزيد من الضغط على أسعار النفط إضافة إلى العوامل الأخرى مثل حجم المعروض منه وانخفاض الطلب عليه. لذلك سوف يبقى سعر برميل النفط منخفضاً. ما يرتب المزيد من الأعباء على الدول المصدرة للنفط ويضعها أمام تحدي تطوير بدائل أخرى للدخل الأمر الذي لن يكون سهلاً. سوف تتذبذب مؤشرات الأسواق المالية المحلية والخليجية وتتجه تدريجياً نحو الانخفاض لأنها أصبحت حساسة بشكل خاص لأسعار النفط ولتحركات مؤشرات الأسهم العالمية وبخاصة مؤشر داو جونز الأمريكي، الأمر الذي سيكبد البورصات مزيداً من الخسائر.
سوف تكون أميركا والدول المرتبطة عملاتها بالدولار أكثر جاذبية للاستثمارات الأجنبية بسبب ارتفاع سعر الفائدة على الدولار وارتفاع الفائدة على السندات الحكومية وسوف تستحوذ أمريكا على النصيب الأكبر من الاستثمارات الأجنبية.
خلاصة القول أن بقاء سعر الفائدة منخفضاً ما هو إلا نوع من التسكين لأعراض الأزمة. ورفع الفائدة المتوقع هو مغامرة تشبه إلى حدٍ كبير رفع أجهزة الإنعاش عن المريض لعل وعسى أن يعيش بدونها. إن الاقتصاد العالمي يعاني من مشاكل وعيوب هيكلية لا بد من التصدي لعلاج أسبابها علاجاً جذرياً قبل فوات الأوان