بدأت آشعة الشمس تتسلل ببطء عبر ذلك الشباك الحديدي العالي وتزحف اليه في جلسته التي لا يكاد أن يغيرها إلا نادرا .. فقد كان جالسا ضاما اليه رجليه وواضعا رأسه بينهما ولا أحد يدري هل ينام هكذا طوال الليل أم لا .. وما إن بدأت آشعة الشمس في الصعود اليه ولفحته بدفئها الساحر حتى رفع رأسه ونظر نحو ذلك الشباك العالي وحدقته تضيق بقوة لمدة ثانيتين ثم مد قدميه أمامه وارتكن برأسه إلى الحائط وكان ضربا من الخيال أن يعلم أحدهم أو يشعر بما يعتمل داخله ..
خمسة أشهر مرت عليه في هذه الزنزانة التي يعدها البعض قاسية موحشة .. في حين أنه لم يكن يشعر بالكون من حوله حتى أنه ليخيل اليه بأن التركيب الكيميائي للمشاعر والأحاسيس بداخله قد أصبحت مختلفة تماما عن كل البشر ..
قد يكون هو السجين الوحيد في هذا الكون الذي ينتظر يوم إعدامه بمنتهى اللهفة .. منذ أو ولجت قدماه هذا السجن وهو صامت منعزل لا يتفوه بحرف أبدا .. وقد كان هذا يضفي عليه غموضا ورهبة لا مثيل لهما ..
في البداية ظنوا بأن تلك هي مشاعر الصدمة الأولى بعد ارتداء حلة الإعدام الحمراء .. والتي لا تتعدي عدة أيام ثم بعدها يظل متلهفا لنزول معجزة عليه من السماء تنقذه من حبل المشنقة الغليظ كما يحدث مع الجميع .. ولكن مر شهر كامل وهو هو صامت منعزل وحيد لا يبدي حراكا أو أي رد فعل .. حتى وجباته البسيطة قليلا ما يتناول إحداها .. ذات يوم حاول أحد أشقياء السجن استفزازه بعد أن تراهن مه رفاقه على أنه سيجبره على النطق ذهب اليه وقاله له .. (( أريد وجباتك التي لا تتناولها بدلا من تركها هكذا تفسد .. )) لم ترمش حتى عيناه دلالة أنه استمع لحرف .. أعاد الرجل عليه نفس الجملة بصوت عالٍ ولم يجاوبه سوى الصمت .. فمد يده ليهزه قائلا .. (( هل تسمعني يا رجل )) وبسرعة البرق وفي رد فعل صاعق أمسك بذراع الرجل الذي امتد نحوه بكلتا يديه ورفع ركبته ليهبط فوقها بهذا الذارع بقوة كاسرا إياه كأنما هو عصاة جافة ورقيقة ليجلجل في ساحة السجن صوت الرجل صارخا من الألم بينما تحرك هو بمنتهى الهدوء والبطء مبتعدا عنه ..
وقتها علم رواد السجن مع أي وحش يقيمون .. فليس عجيبا على رجل كان حكم الإعدام عليه بسبب أنه قتل ولده برصاصة مباشرة في الرأس أن يفعل هذا وبعدها تم منعه من التريض خارج زنزانته ليظل بها منتظرا ذلك اليوم الغير معلوم ليتدلي مكسور الرقبة منزوع الروح جزاءً على ما اقترفت يداه .. وفُتح باب زنزانته بصريرها المعتاد ليضع الشاويش محمود وجبته بجانبه وليقف لأول مرة سائله
.. (( هل تريد وجبة خاصة للغداء اليوم ؟؟ .. )) ولأول مرة يكن هناك رد فعل مباشر على حديث موجه اليه .. فقد رفع رأسه ولمعت عيناه وهي تنظر نحو الشايش محمود في تساؤل واضح لا يحتاج لأن يترجم بالنطق المباشر .. ارتبك الشاويش محمود وقد علم مغزى السؤال الإثيري هذا .. فرد عليه قائلا .. (( نعم غالبا هذا هو اليوم الموعود .. )) ولعجب الشاويش محمود فقد لمح شبح ابتسامة سريعا ما اختفت وعاد الرجل ليرتكن بظهرة ورأسه مرة أخرى نحو الجدار الصلب الجاف .. وخرج الشاويش محمود ليذهب مع رفاقه لإعداد المنصة وتجربتها قبل أن يأتي الوفد المصاحب لعملية الإعدام .. وعلى نقيض كل من سبق في هذه الزنزانة .. لم يرتعد ولم ترد إلى ذهنة أي خيالات مرعبة وتوقعات لآلام مبرحة ولا تساؤلات عن ماهية الموت ولا حتى ما بعد الموت وإنما ارتخي بجسمه تماما ولأول مرة منذ أمد ينتابه شعور بالراحة وبدأ جسده بالاستكانه وذهب الى سريره لينام نوما عميقا لم يجربه من قبل .. ليستيقظ منتفضا على أصوات لم يعهدها في هذا المكان أبدا .. كانت هدير صوت طلقات الرصاص لا ينقطع والانفجارات تتوالى .. لولا شعوره بالارتجاج الناتج عن هذه الانفجارات لظن بأن هناك من يشاهد فيلما من أفلام الحركة وهذه هي المؤثرات الصوتية المصاحبة لأحداثه ..
وتسلل لأنفه رائحة الدخان مغلفة بالبارود ولأول مرة في هذا المكان تتشكل انفعالات الدهشة والتساؤل على وجهه لمعرفة ما يحدث بالخارج تمنى لو أنه يستطيع الصعود الى تلك النافذة العالية ليرى ما خلفها .. ولمدة ساعتين كاملتين لم تتوقف أصداء تلك المعركة المجهولة والتي لا يعرف أطرافها ..
وأخيرا سكنت الأصوات تماما ولم يعد يسمع سوى بعض أصوات الصياح التي تتردد بكلمات غير مفهومة غالبا .. فجلس على الأرض مرة أخرى مرتكنا للحائط في مواجهة باب الزنزانة وهو يتسائل عن تلك المفارقة التي تأبي أن تتركه يرحل بسلام .. فعندما جاء اليوم الذي ينتظره يحدث ما يثير فضوله ويخرجه من قوقعته النفسية هكذا ؟
سمع أصواتا تقترب من بابه علم بأنه أخيرا سيرحل وغالبا لن يعلم بما حدث في الخارج .. ولكن فُتح الباب ليجد وجوها غريبة لم يرها من قبل بين أسوار هذا السجن وأحدهم قال له بتهدج .. (( هيا بسرعة لقد حان الهروب اخرج من هنا ولا تلتفت ورائك ..)) وتركوه وانسلوا من أمامه ..
للحظة ظل جامدا غير مستوعبا لما سمع .. ولكن باب الزنزانة المفتوح وصوت أقدامهم المسرعة والمبتعدة جعلته يشعر بأن الطريق ممهد بالفعل لما قالوا .. قام منتصبا وسار بهدوء ليخرج من زنزانته لأول مرة منذ أشهر .. ليسير وهو يتلفت ذات اليمين واليسار ليرى آثار معركة دامية هي ما تخلفت عن تلك الأصوات المرعبة التي كان يستمع لها منذ قليل كان الدخان والدمار والجثث الملقاة لضباط وعساكر السجن من حوله تشير إلى مذبحة قاسية لم يدر أبدا من المتسبب فيها .. كان المساجين تفتح لهم الزنازين يفرون مسرعون من حوله دون أن يتلفت أحدهم نحو الآخر وبينما هو يسير طرق اذنيه صوت أنين خافت .. نظر نحوه فإذا به ضابط يحمل على كتفه شارة رتبة المقدم .. ملقى على ظهره والدماء تنزف بقوة من كتفه وبطنه ومسدسه بجواره على بعد خطوتين .. زم شفتيه بقوة وذهب ليلتقط هذا المسدس وبكل برود الدنيا وجهه نحو رأس ذلك الضابط الذي نظر نحوه باستعطاف واسترحام شديدين دون أن تخرج منه سوى الآه .. ولكن داس اصبعه على الزناد ليخمد تلك الآه برصاصة مباشرة في الرأس .. وتنهد بقوة بعد رصاصته تلك واتجه نحو المكتب الذي به ملابسه المدنية ليرتديها بمنتهى الهدوء
ولأول مرة يحاول معرفة الزمن الذي هو فيه نظر نحو تلك النتيجة المعلقة ليعلم بأن اليوم هو الأول من فبراير عام 2011 وأخيرا بدأ التوجه نحو باب السجن ليخرج منه ممسكا المسدس بيمناه وتنفس بعمق وضاقت عيناه بقوة وقسوة ليخرج منهما شررا يكاد أن يحرق المكان من حوله بأكثر مما هو محترق .. وأخيرا انطلق مسرعا وكل كيانه وعقله لا يحمل إلا هدفا واحدا
هدف ظن بأن الله مد في عمره فقط لتحقيقه وانتوى بأنه لن يعيش إلا له .