تاريخ الشرق الأوسط تكتبه الكارتلات الاحتكارية لشركات البترول، طفرة الخليج تحققت خلال سيطرتها على المنطقة إبان الاستعمار البريطانى، العواصف تُسقِط من خرج عن فُلكِها، حليفاً كالشاة، أو معارضاً كصدام، والاضطرابات أداة ترويض وضغط، على نحو ما يتم مع السعودية والبحرين، ملف احتياطيات غاز الدلتا والمنطقة الاقتصادية شرق المتوسط حظرته المخابرات الأمريكية منذ السبعينيات، حتى لا ينعكس على التوازن الاستراتيجى بالمنطقة، لكنها بدأت فى تسريب بعضه بحذر، ضمن حرب الغاز ضد روسيا.. اكتشفت إسرائيل حقل «تمار» المقابل لمدينة صور اللبنانية 2009، قبل أن تعلن هيئة المساحة الجيولوجية الأمريكية فى 2010 عن وجود احتياطى غاز يقدر بـ122 - 220 تريليون قدم3، و1.7-3.7 مليار برميل نفط، بالحوض الرسوبى شرق المتوسط، قدرت قيمة ما يخص مصر منه بقرابة 700 مليار دولار، قابلة للزيادة، شركة «رويال دتش شل» التى منحتها مصر حق التنقيب بقطاع «نيميد» منذ 1999، اكتشفت بئرين 2004، ثم أعلنت توقفها فى أعقاب الثورة المصرية 2011!!، رغم اكتشاف إسرائيل حقلى «ليفياثان» 2010، ثم «شمشون» 2012، واكتشاف قبرص لـ«أفروديت» 2011، أوائل 2014 انسحبت «شل» تماماً بضغوط دولية!!، بعد أن توفر لديها تفاصيل احتياطات الغاز الضخمة التى تخص مصر بالمنطقة!!، وانتقلت للتعاون مع «نوبل أويل» الإسرائيلية.. مصر لم تكن مغيبة عن ذلك، رغم محاولات إلهائها بحرب إرهاب ضارية.
البحرية الإسرائيلية مدت نطاق أمن سواحلها منذ 2011 حتى السواحل القبرصية، لحماية منصات الغاز والأبحاث والتنقيب، وتأمين عمليات النقل، ما تطلب تسيير دوريات مراقبة على مدار الساعة، بالزوارق الحربية والبالونات وطائرات التجسس وبدون طيار، وتعزيز معدات الرصد والإنذار والمخابرات، واستكمال منظومه «باراك» المضاده للصواريخ، ووحدة الصاعقة البحرية «شايطيت١٣»، المسؤولة عن حراسة وتأمين المنصات والحقول، إضافة لرصد 620 مليون دولار لإنشاء شبكة دفاعية حول المنصات «الدرع»، كما دعمت أسطولها بالتعاقد مع ألمانيا على ست غواصات «دولفين»، و4 فرقاطات نوع «السفن الواقية»، يتم تزويدها بأنظمة صواريخ إسرائيلية «باراك 8»، تدخل الخدمة بنهاية العقد الحالى.
إسرائيل سعت للتحالف مع قبرص واليونان، ديسمبر 2010 وقعت اتفاقا لترسيم حدود المنطقة الاقتصادية مع قبرص، وآخر للتعاون والتنسيق فى مجال التنقيب واستخراج النفط والغاز، نتن زار نيقوسيا فبراير 2012، وبيريز وقع اتفاقاً مع اليونان أغسطس 2012، يمهد لقمة ثلاثية لوضع استراتيجيات تصدير الغاز لأوروبا، منذ 2012 بدأت مناورات بحرية سنوية إسرائيلية يونانية قبرصية بمشاركة الأسطول السادس، للتدريب على حماية حقول ومنصات الغاز، قبرص وقعت مذكرة تفاهم مع مجموعة إسرائيلية- أمريكية لبناء مصنع للغاز المسال «يونيو 2013»، واتفاقية لتبادل وحماية المعلومات السرية عن الغاز مع إسرائيل إبريل 2014.
بعد اكتشاف «أفروديت» بدأت التحرشات العسكرية التركية بقبرص، رفعت حجم تواجدها العسكرى شمال الجزيرة من 36.000 جندى لـ43.000، وسعت لشراء قطعة بحرية قادرة على نقل ألف جندى و150 ناقلة، بتكلفة مليار دولار، وتطوير بحريتها لتفرض تواجدها كشريك فى غاز المتوسط، متعللة بحق القطاع التركى من قبرص فى عوائد النفط، رغم أن وجود الجزر اليونانية مقابل السواحل التركية يحرمها حق تقاسم المنطقة الاقتصادية، ما يفسر رفضها توقيع الاتفاقية الدولية لقانون البحار.. قبرص تعاقدت على شراء فرقاطتين من فرنسا وزورقين بحريين من إسرائيل، لكنها أدركت أهمية إيجاد ثقل مواز للقوة التركية، خاصة بعد تعديل الأخيرة قواعد الاشتباك لقواتها شرق المتوسط، والسماح لوحداتها البحرية بتطبيقها كاملة دون الرجوع للقيادة، والبدء فى إرسال سفن البحث والتنقيب للمياه الإقليمية القبرصية، برفقة سفن حربية لحمايتها.
الدبلوماسية المصرية تابعت ذلك عن قرب، والتقطت الخيوط بمهارة، توصلت مع قبرص واليونان لآلية لقاءات دورية منتظمة للخبراء لوضع أسس التعاون الاستراتيجى بالمتوسط، كان آخرها بنيويورك سبتمبر 2015، وزير خارجية قبرص كان أول وزير خارجية فى العالم يزور القاهرة بعد 30 يونيو 2013، والرئيس القبرصى أول زعماء الاتحاد الأوروبى، وشاركا معاً فى مراسم تنصيب السيسى، عدلى منصور زار نيقوسيا، مصر وقبرص وقعتا اتفاقية تقاسم مكامن الطاقة ديسمبر 2013، واتفقتا على تسييل الغاز القبرصى بمصانع «دمياط»، مصر وقبرص واليونان وقعت إعلانى القاهرة 2014، ونيقوسيا 2015، لتنظيم التعاون فى التنقيب عن الغاز، وإعادة ترسيم الحدود البحرية، وشاركت قواتها البحرية فى مناورات «آليكساندربوليس» بالبحر المتوسط 2014.
مصر أجلت الإعلان عن اكتشافاتها من الغاز لأكثر من عام، حتى ترتب أوضاعها بما يتناسب والمخاطر المحيطة بها، تحديث قواتها الاستراتيجية كان على رأس أولوياتها، لتصبح قادرة وبحسم على تأمين ثرواتها فى عمق المنطقة الاقتصادية بالمتوسط، أبرمت صفقات مع روسيا وفرنسا وألمانيا لتزويد القوات الجوية بمقاتلات متعددة المهام، تحقق السيادة الجوية، لمديات بعيدة، «46 ميج 29 روسية، 24 رافال فرنسية، 50 مروحية كاـ52 الروسية الهجومية براً وبحراً»، إدخال منظومة الدفاع الجوى بعيدة المدى لأول مرة بمصر «إس300 المعروفة بأنتاى 2500»، التى يمكنها تدمير 24 هدفا فى وقت واحد على بعد 250 كيلومترا، التعاقد مع ساجيم الفرنسية لإنتاج طائرات بدون طيار «باترولر» بمدى يتجاوز 200 كيلو، التعاقد على مدمرتين «فريم» من فرنسا، وصلت إحداهما بالفعل، استلام أربعة زوارق أمريكية هجومية «إمباسادور» مسلحة بصواريخ هاربون بمدى 124 كيلو، التعاقد على 4 غواصات «تايب» ألمانية، وسفينة صواريخ روسية «مولينيا»، وأخيراً حاملتى طائرات الهليكوبتر «ميسترال»، اللتين تعملان كسفن إبرار وقيادة، ويمكن لكل منهما حمل 16 مروحية هجومية ثقيلة، و70 مركبة قتال بينها 13 دبابة، و4 مركبات إنزال، و450 مقاتلا، ومعهما 4 طرادات «جاويند» للمرافقة والحماية، لتتصدر البحرية المصرية دول الشرق الأوسط، وتتبوأ المركز السابع عالمياً.
مصر منحت «إينى» امتياز «شروق» 2012، السيسى التقى كلاوديو دِسكالزى مديرها التنفيذى فبراير 2015، ووزارة البترول وقعت معها 3 اتفاقيات لضخ 5 مليارات دولار استثمارات جديدة للتنقيب واستخراج البترول والغاز بالمتوسط، الشركة أعلنت فى يوليو عن كشف بمنطقة أبو ماضى الغربية 120 كيلو شمال شرقى الإسكندرية، باحتياطيات 15 مليار متر3، والمدير التنفيذى لـ«إينى» عاد للقاهرة واجتمع مع السيسى 29 أغسطس، قبل إعلان اكتشاف أكبر حقل غاز بالمتوسط، وربما العالم، 190 كيلو شمال شرق بورسعيد، باحتياطيات 30 تريليون قدم مكعب.. ما يرفع احتياطيات مصر لتتجاوز 90 تريليون قدم3!!.. داعش فجرت مقر «إينى» بطرا، وانهارت البورصات وأسهم شركات الطاقة فى إسرائيل، التى بنت استراتيجيتها على أساس أن مصر هى أهم أسواق استهلاك غاز حقولها بالمتوسط، وأن تجهيز فائض التصدير يعتمد على مصانع الإسالة بدمياط.
■ ■ ■
مصر أحبطت مخطط الاستيلاء على حقوقنا الوطنية بالمتوسط، بإدارة استراتيجية رصينة، استخدمت فيها بذكاء خليطاً من الأدوات الدبلوماسية، وقوة الردع، على نحو يعزز الدور المصرى فى مستقبل المنطقة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، ما يفسر سعى أمريكا لتشكيل تجمع للطاقة يضم مصر وقبرص وإسرائيل، لتصدير الغاز لأوروبا عبر خطوط أنابيب لتركيا واليونان، حتى إن إموس هوكشتاين مساعد وزير الخارجية الأمريكى لغاز المتوسط شارك أغسطس الماضى ضمن الحوار الاستراتيجى مع مصر!!، لكن هذا التجمع يصعب تشكيله، نظراً للمشكلة القبرصية، وفقدان الثقة فى تركيا كممر آمن، بعد وقفها تصدير الغاز الروسى عبر أوكرانيا، والغاز العراقى من كردستان، فضلاً عن تدهور علاقاتها مع إسرائيل ومصر واليونان.