المختصر/يُلقي زعماء الدول العظمى كلمات رنانات عن السلم العالمي، في حين يعينون في وضح النهار كل القتلة ومصدري الجوع والفقر والعاهات في غرب أفريقيا ووسطها النازف وبورما ولاوس والهند وليبيا والعراق وسورية وفلسطين جعل الخالق عز وجل لما يجري في الكون سننا لا تتبدل ولا تتحول، ليس ذلك مقصورا على حركة الكون الطبيعية، بل حتى على حياة الأمم وتقلبات التاريخ، ومصائبنا في العالم أجمع ليست ولا يمكن أن تكون بمعزل عن ذلك، فلها أسبابها القدرية التي نبه المولى عز وجل إليها في غير ما موضع من كتابه الحكيم، لكن الحديث عنها والنظر إلى الأحداث من خلالها قليلان جدا وهذا مما يؤسف له.
فالله سبحانه وتعالى يقول: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير)، وقال تعالى (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد)، فكل أُمَّة انحسر فيها مفهوم الظلم إلى الظلم المادي الدنيوي ومفهوم العدل إلى الحقوق المادية الدنيوية تكون وفقا لما سنه المولى مستحقة للأخذ الدنيوي أيضا، فالمفهوم الشرعي للظلم أوسع من أن نحصره في الجانب المادي الدنيوي بل الأصلُ فيه: تعدي حدود الله عز وجل (ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه)، (إن الشرك لظلم عظيم)، وليس ثمةَ أُمَّة أو شعب في منجى من هذه السُّنَّة القدرية مسلمة كانت أو غير مسلمة (سنةَ الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا)، أهل قرية كما هو التعبير القرآني في مثل الآية السابق ذكرها، أو أهل قرن، أي جيل كامل كما في قوله تعالى (ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين)، فهذه السُّنَّة كما تصدق على القرية محدودة العدد، تصدق أيضا على الجيل الكامل (إن يشأ يُذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز)، ووجود الرخاء ورغد العيش في أمة محادة لله تعالى مُضَيِّعة لشرعه وحدوده كحال المجتمعات المتقدمة اليوم، لا يعني اختلال هذه السُّنَّة، بل يعني بالتأكيد أنها مما ينطبق عليها قوله تعالى (ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون)، فالأمم الظالمة المُتَعَدِّية حدود الله تعالى يُفيض الله عليها من إحسانه، لكنها تقابل هذا الإنعام الذي أصابهم بعد مَس الضراء بنسيان ماضيهم القريب وجحود النعمة ونُكران فضل المنعم ونِسبة ما هم فيه من الرخاء إلى تقلبات الأحوال التي لا علاقة لها بإقبالهم أو إدبارهم عن جناب ربهم والذي يُلَخِّصه قولهم فيما حكاه الله (قد مَس آباءنا الضراء والسَّراء). إن هذه المشاهد التي تتحدث عنها الآيات القرآنية لا يُمكن أن تغيب عن ذهن المؤمن وهو يُشاهد العالم أجمع يتواطأ على محادَّة الله تعالى والمجاهرة بمحاربته وتعدي حدوده في العقيدة والسياسة والاقتصاد والاجتماع والأخلاق، وأعظم من ذلك تعدي حدوده في التعامل مع الإنسان نفسه في عصر يرفع شعار حقوق الإنسان أكثر من أي عصر مضى في التاريخ بأسره، فتنتهك حُرمة الدماء المَصُونة في جميع الطبائع والشرائع، وتجتمع أكبر دول العالم قوة لضرب شعب ضعيف أعزل لا تتجاوز في ذلك تعاليم الأديان وحسب، بل جميع أخلاق الفروسية وشيم النبلاء التي يتحدث عنها تراثهم الروائي.
يأتي هذا التعدي في وقت تعقد فيه دول العالم جمعاء قمة التنمية المستدامة، حيث يُلقي خُطباؤهم كلمات رنانات عن السلم العالمي وعون الغني للفقير في حين يعينون في وضح النهار كل القتلة ومصدري الجوع والفقر والعاهات في غرب أفريقيا ووسطها النازف وشرقها وبورما ولاوس والهند والنيبال وبنجلاديش والفلبين وليبيا والعراق وسورية وفلسطين.
يلقي الرئيسان الروسي والأميركي كلمتيهما عن السلم العالمي والتنمية المستدامة في حين تلقي طائرات بلديهما الذخيرة الحية على شعب لم يطلب أكثر من التنمية المستدامة التي حضرا قمتها العالمية.
لا يُمكننا ونحن نرى هذا المشهد المتناقض والجريمة المتعمدة أن نتجاوز قوله تعالى: (فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد) أو قوله عز وجل (وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإليّ المصير). فنحن اليوم أمام ثلاثة أصناف من الأمم، الأولى: أخذها ربها بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون، وأرجو أن يكون أهلنا في سورية والعراق وفلسطين وما شاكلها من بلاد المسلمين من هذا النوع، لأن هذا الصنف إذا حقق شرط الله عز وجل وهو التضرع والإنابة إليه رفع عنه سبحانه وتعالى ما أصابهم به، كما قال عز من قائل: (ولقد أرسلنا إلى أُمَم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون، فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون). الصنف الثاني: أمم تمادت في تعدي حدود الله والاعتداء عليها أيما تماد، وأخذها الله في أزمان سالفات بالبأساء والضراء لكن ذلك لم يَرُدَّ نفوسهم عن غيها وبغيها وعدوانها، فهي في مرحلة الإملاء، كما قال سبحانه: (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين) فينسون كل تعاليم الله ليفتح الله عليهم أبواب كل شيء من النعم والفتن ثم يأخذهم بغتة أي في حينٍ من القوة والاعتداد بالنفس والتعالي على أهل الأرض يتصورون معه أنهم ملكوا القدر والقدرة (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم ملبسون)، وأرجو أن يكون هذا مآل أمم الطغيان التي تجاوزت كل حد في حرب الأديان والأخلاق والفطر. الصنف الثالث: أمم آمنت واتقت ففتح الله عليها وأورثها الأرض من بعد أهلها، ثم ابتلاهم بما يبتلي به الأمم من فتن الدنيا والدين، وهم اليوم بين أمرين: إما أن ينساقوا وراء هذه الفتن فيصيبهم ما يصيب المترفين الذين يوصلهم ترفهم إلى اجتراح الفسوق الموجب للتدمير كما قال سبحانه: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا)، وإما أن ينيبوا إلى ربهم ويرجعوا إليه ويحفظوا حدوده فيستبقون ما أورثهم إياه ربهم كما قال: (وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون). المصدر: الوطن السعودية