كانت قبيلة مزينة، تتخذ منازلها قريبةً من يثرب .. والتي أضحتْ بعد ذلك المدينة المنورة .. مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم .. على الطريق الممتدة بين المدينة ومكة .. وكان النبي عليه الصلاة والسلام قد هاجر إلى المدينة .. وجعلت أخباره تصل تباعاً إلى مزينة مع الغادين والرائحين .. لأن مزينة كانت على الطريق بين مكة والمدينة .. ولم تكن هذه القبيلة تسمع إلا خيراً عن رسول الله صل الله عليه وسلم وأصحابه .. و كانتْ منصفة .. والمؤمن من صفاته أنه منصف .. ينصف الناس من نفسه .. وفي ذات عشيةٍ .. جلس سيِّد القوم .. الصحابي الجليل الذي نتحدث عنه وعن عظمة موقفه في الإسلام في ناديه مع أخوته .. ومشيخة قبيلته فقال :
يا قوم .. واللهِ ما علِمنا عن محمدٍ إلا خيراً .. ولا سمعنا من دعوته إلا مرحمةً وإحساناً وعدلاً .. فما بالنا نبطئ عنه .. والناس يسرعون إليه؟
ثم قال : أمّا أنا فقد عزمتُ على أن أغدوَّ عليه إذا أصبحت .. فمَن شاء منكم أن يكون معي فليتجهَّز - وكأنما مسَّت هذه الكلمات وتراً مرهفاً في نفوس القوم .. فما إن طلع الصباح حتى وجد أخوته العشرة .. وأربعمائة فارسٍ من فرسان مُزينة قد جهَّزوا أنفسهم للمضي معه إلى يثرب .. للقاء النبي صلوات الله وسلامه عليه .. والدخول في دين الله .. واستحيا الصحابي الجليل أن يَفِدَ مع هذا الجمع الحاشد على النبي صلى الله عليه وسلم دون أن يحمل له وللمسلمين شيئاً يقدِّمه .. وفي المسلمين فقراء .. وذو حاجة .. فأراد أن يقدِّم للنبي عليه السلام بعض الهدايا .. لكن كانت تلك السنة العجفاء المجدبة التي مرَّت بها مزينة لها الأثر الكبير عليها اقتصاديا فلم تترك لها ضرعاً ولا زرعاً .. فطاف الصحابي الجليل ببيته .. وبيوت اخوته .. وجمع كل ما أبقاه القحط من أغنام .. وساقها أمامه .. وقدم بها على النبي صل الله عليه وسلم .. وأعلن هو ومن معه إسلامهم بين يديه .
وحينما رأى رسول الله صل الله عليه وسلم ذلك سُرَّ أشدَّ السرور .. واهتزت يثربُ من أقصاها إلى أقصاها .. فرحاً بالصحابي الجليل وصحبه .. إذ لم يسبق لبيتٍ من بيوت العرب أنْ أسلم منهم هذا الجمع الغفير .. وتقبَّل الله عزَّ وجل غُنيماته .. وأنزل فيه قرآناً يُتلى إلى يوم القيامة :
?وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ? سورة التوبة الآية 99
هذا الصحابي الجليل هو: النعمان بن عمرو بن مقرن بن عائذ بن ميجا بن هجير بن نصر بن حبشية بن كعب بن عبد بن ثور بن هذمة بن لاطم بن عثمان بن مزينة بن إد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان أبو عمرو المزني.
انضوى النعمان بن مقرن المزني تحت راية النبي صلى الله عليه وسلم .. وشهد معه غزواته كلها .. غير وانٍ ولا مقصِّر .. ولما آلت الخلافة إلى سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه .. وقف معه هو وقومه من بني مزينة وقفةً حازمةً .. كان لها أثرٌ كبير في القضاء على فتنة الردة
و في عهد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه .. صار للنعمان بن مقرِّن شأنٌ ما يزال التاريخ يذكره انٍ نديٍ بالحمد .. رطبٍ بالثناء .. فقُبَيْل القادسية أرسل سعدُ بن أبي وقَّاص قائد جيوش المسلمين وفداً إلى كسرى يزدجرد .. برئاسة النعمان بن مقرن .. ليدعوه إلى الإسلام .. وهذا الموقف يوضح شيء في غاية الأهمية وهو أن ديننا الإسلامي .. ليس دين السيف كما يحاول أعداء الإسلام أن يشيعوا عنه .. وإنما هو دين الدعوة السلمية .. ولما بلغ الوفد عاصمة كسرى في المدائن .. استأذنوا للدخول عليه .. فأذن لهم .. ثم دعا الترجمان فقال له : سَلْهُمْ ما الذي جاء بكم إلى ديارنا .. وأغراكم بغزونا .. لعلكم طمعتم بنا .. واجترأتم علينا .. لأننا تشاغلنا عنكم .. ولم نشأ أن نبطش بكم ؟
فالتفت النعمان بن مقرن بأدب وتواضع إلى من معه .. وقال لهم .. إن شئتم أجبته عنكم .. وإن شاء أحدكم أن يتكلم آثرتُه عليَّ بالكلام .. فماذا تروْن؟ قالوا جميعاً : بل تكلَّم أنت .. - لأنه رئيس وفد المسلمين .. وما اختاره سيدنا سعد إلا على علم - وقالوا: هذا الرجل يتكلَّم اننا، فاستمع إلى ما يقول: فحِمَد النعمانُ الله وأثنى عليه وصلى على نبيِّه صلى الله عليه وسلم ثم قال: إن الله رحمـنا .. فأرسل إلينـا رسولاً يدلُّنـا على الخير .. ويأمُرنا به .. ويعرِّفنا الشرَّ .. وينهانا عنه .. ووعدنا فيما دعانا إليه بخيري الدنيا والآخرة .. ثم قال: فما هو إلا قليل .. حتى بدَّل الله ضيقنا سَعَةً .. وذلَّتنا عزةً .. وعداواتنا إخاءً ومرحمة
فاستشاط يزدجرد غضباً وغيظاً مما سمع وقال: إني لا أعلم أمةً في الأرض كانت أشقى منكم .. ولا أقلَّ عدداً .. ولا أشدَّ فرقةً .. ولا أسوأ حالاً .. وقد كنا نكِل أمركم إلى ولاة الضواحي .. فيأخذون لنا الطاعة منكم - ثم خفف شيئاً من حدته - وقال : فإن كانت بكم الحاجة - أي الفقر - هي التي دفعتكم إلى المجيء إلينا .. أمرْنا لكم بقوتٍ إلى أن تخصِب دياركم .. وكسونا سادتكم .. ووجوه قومكم .. وملَّكنا عليكم ملكاً من قبلنا يرفق بكم
فردَّ عليه رجل من الوفد رداً أشعل النار من جديد .. فغضب يزدجرد و قال: لولا أن الرسل لا تُقْتَل لقتلتكم .. قوموا فليس لكم شيءٌ عندي .. وأخبِروا قائدكم أني مرسِلٌ إليه رستم .. حتى يدفنه ويدفنكم معاً في خندق القادسية .. وأنتم مصيركم القتل في خندق القادسية .. ثم أمر فأتي له بحِملٍ من التراب .. وقال لرجاله : حمِّلوه على أشرف هؤلاء .. وسوقوه أمامكم .. على مرأى من الناس .. حتى يخرج من أبواب عاصمة ملكنا .. فقالوا للوفد: من أشرفكم؟ - يريدون أنْ يحملوه ترابًا ويمشوا به في الطريق كي يذلَّونه لأنهم في نظره أسرى عنده - فبادر إليه عاصم بن عمر .. أحد صغار الوفد - توقيرا لرئيسه ولبقية الوفد - فقال له: أنا أشرفهم .. فحمَّلوه عليه .. حتى خرج من المدائن .. ثم حمل الترابَ على ناقته .. وأخذه معه لسعد بن أبي وقَّاص .. وبشّره بأن الله سيفتح على المسلمين ديار الفرس .. ويملِّكهم تراب أرضهم .. ثم وقعت موقعة القادسية .. واكتظ خندقها بجثث آلاف القتلى من جنود كسرى حينما هُزِم الفرس في معركة القادسية شرَّ هزيمة .. جمعوا جموعهم .. وجيَّشوا جيوشهم .. حتى اكتمل لهم .. مئةٌ وخمسون ألفاً من أشدَّاء المقاتلين .. للمعركة الثانية .. معركة نهاوند .. فلما وقف الفاروق على أخبار هذا الحشد العظيم .. عزم أن يمضي إلى مواجهة هذا الخطر الكبير بنفسه .. إلا أن المسلمين ثنوه عن ذلك وأشاروا عليه أن يُرسل قائداً يعتمد عليه في مثل هذا الأمر الجلل .. فقال عمر: أشيروا عليّ برجلٍ .. لأولِّيَه ذلك الثغر.. فقالوا : يا أمير المؤمنين .. أنت أعلم بجندك .. فقال : واللهِ لأولِّيَنّ على جند المسلمين رجلاً يكون إذا التقى الجمعان أسبقَ من الأسنة .. إنه النعمان بن مقرن المزني - فصار سيدنا النعمان قائد معركة نهاوند - فقالوا: هو لها .. أي واللهِ أصبتَ .. فكتب إليه يقول:
مِن عبد الله عمر بن الخطاب .. إلى النعمان بن مقرن .. أما بعد .. فإنه قد بلغني أن جموعاً من الأعاجم كثيرةً .. قد جمعوا لكم بمدينة نهاوند .. فإذا أتاك كتابي هذا .. فسِرْ بأمر الله .. وبعون الله .. وبنصر الله .. بمَن معك مِن المسلمين .. ولا توطئهم وعراً فتؤذيهم .. فإن رجلاً واحداً من المسلمين .. أحبُّ إلي من مئة ألف دينارٍ .. والسلام عليك
هبّ النعمان بجيشه للقاء العدو .. وأرسل أمامه طلائع من فرسانه .. لتكتشف له الطريق .. فلما اقترب الفرسان من نهاوند توقَّفت خيولهم .. فدفعوها فلم تندفع .. فنزلوا عن ظهورها .. ليعرفوا ما الخبر؟ فوجدوا حوافر الخيل .. فيها شظايا من الحديد .. تشبه رؤوس المسامير .. فنظروا إلى الأرض .. فإذا العجم قد نثروا في الدروب المؤدية إلى نهاوند حسكَ الحديد .. ليعوِّقوا الفرسان والمشاة عن الوصول إليهم
أخبرَ الفرسانُ النعمان بما رأوا .. وطلبوا منه أن يمدَّهم برأيه .. فأمرَهم أن يقفوا في أمكنتهم .. وأن يوقدوا النيران في الليل .. ليراهم العدو .. عند ذلك يتظاهرون بالخوف منه .. والهزيمة أمامه .. ليغروه باللحاق بهم .. وإزالة ما زرعه من حسك الحديد .. فنجحت الخطةُ .. التي نفذها القعقاع ببراعة .. وجازت الحيلة على الفرس .. فما إن رأوا طليعة جيش المسلمين تمضي منهزمةً أمامهم .. حتى أرسلوا عمَّالهم .. فكنسوا الطرق من الحسك .. فكرَّ عليهم المسلمون .. واحتلوا تلك الدروب .. وعسكرَ النعمانُ بن المقرن المزني بجيشه على مشارف نهاوند .. وعزم على أن يباغت عدوه بالهجوم .. فقال لجنوده : إني مكبرٌ ثلاثاً .. المباغتة من علامات نجاح المعركة .. فإن كبَّرتُ الأولى فليتهيَّأْ مَن لم يكن قد تهيَّأ .. وإن كبَّرت الثانية .. فليشددْ كلُّ رجلٍ منكم سلاحه على نفسه .. وإن كبرتُ الثالثةَ فإني حاملٌ على أعداء الله فاحملوا معي .. وإن قتلت فالأمر بعدي لحذيفة فإن قتل ففلان حتى عد سبعة آخرهم المغيرة .. ثم دعا ربه قائلاً : "اللهم أعزز دينك وانصر عبادك واجعل النعمان أول شهيد اليوم .. اللهم إني أسألك أن تقر عيني بفتح يكون فيه عز الإسلام واقبضني شهيدًا" .. فبكى الناس من شدة التأثر .. ودارت المعركة على مشارف نهاوند .. و كبرَّ النعمان بن مقرنٍ تكبيراته الثلاث .. واندفع في صفوف العدو .. كأنه الليث عادياً .. وتدفق وراءه جنود المسلمين تدفُّقَ السيل .. ودارت بين الفريقين رحى معركةٍ ضروس .. قلَّما شهد التاريخُ لها نظيراً .. كانت من أشهر معارك المسلمين في فتح بلاد الفرس .. وقاد النعمان المعركة بشجاعة نادرة .. و تمزَّق جيش الفرس شرَّ ممزق .. وملأت قتلاه السهل والجبل .. وسالت دماؤهم في الممرات والدروب .. فزلق جواد النعمان بن مقرن بالدماء فصُرع .. وأصيب النعمان نفسه إصابةً قاتلة .. فظفر بالشهادة التي كان يتمناها .. فأخذ أخوه اللواء من يده وسلمها لحذيفة .. وسجَّاه ببردةٍ كانت معه .. وكتم أمر استشهاده عن المسلمين حتي تنتهي المعركة .. وما أخبر أحدًا .. ولما تمَّ النصر الكبير الذي سمَّاه المسلمون فتح الفتوح .. سأل الجنودُ المنتصرون عن قائدهم الباسل .. فرفع أخوه البردة عنه .. وقال : هذا أميركم .. قد أقرَّ اللهُ عينه بالفتح .. وختم له بالشهادة .. وذهب البشير يخبر أمير المؤمنين عمر قائلا له : "فتح الله عليك .. وأعظم الفتح .. واستشهد الأمير" فقال عمر: إنا لله وإنا إليه راجعون .. واعتلى المنبر ونعى إلى المسلمين النعمان بن المقرن أمير نهاوند وشهيدها .. وبكى .. وبكى .. حتى علا صوته بالبكاء .. رضي الله عن النعمان القائد المنتصر شهيد معركة فتح الفتوح .. الذي روي عن رسول الله صل الله عليه وسلم العديد من الأحاديث الشريفة ومنها .. عن النعمان بن عمرو بن مقرن قال: قال رسول الله صل الله عليه وسلم: " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"